اللغة الشاعرة

Genel Arapça | Üst-ileri

تُفرِّق الدراسات الحديثة بين المزايا التي يتغنى بها أصحاب العصبيات القومية، فَخْرا بألسِنتهم وطبائعهم وعقولهم على عادة جميع الأقوام، وبين المزايا العلمية التي تستند إلى خصائص النطق والتعبير المتفق عليها في العلوم اللسانية، ولا محاباة فيها لهذه اللغة أو لتلك.

ونحن هنا معنيون بإبراز المزايا العلمية لهذه اللغة في زمن تعرضت فيه وحدها، بين لغات العالم، لكل ما ينصبُّ عليها من معاول الهدم، ويحيط بها من دسائس الراصدين؛ لأنها قِوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية، لا لأنها لغة كلام وكفى!

فنّ منظوم منسّق الأوزان

وُصِفت العربية قديما وحديثا بأنها لغة شعرية، وكان الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وأنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتّل والكلم الموزون، كما كانوا يقصدون أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو نادر في سائر اللغات.

ولكن الحقيقة هنا أكبر وأعلى؛ فاللغة العربية هي اللغة الشاعرة، وليس في اللغات التي نعرفها، أو نعرف شيئا كافيا عن أدبها، لغةٌ واحدةٌ توصف بأنها لغةٌ شاعرة غير اللغة العربية.

فالعربية لغة شاعرة لأنها بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية؛ فهي في جملتها فنٌّ منظوم مُنَسّق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألّفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء.

وهذه الخاصة في اللغة العربية واضحة في تركيب حروفها، وفي تركيب

مفرداتها، وفي تركيب قواعدها وعباراتها... إلخ.

الأبجدية الموسيقية

ليست الأبجدية العربية أوفر عددا من الأبجديات في اللغات الهندية الجرمانية، أو اللغات الطورانية أو اللغات السامية، فإن اللغة الروسية مثلا تتجاوز حروفها ثلاثين حرفا.

ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان

وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس، ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية.

ولا لبس بين مخارج الحروف، ولا إهمال لمخرج منها، ولا حاجة فيه إلى تكرار النطق من مخرج واحد، تتوارد منه الحروف التي لا تتميز بغير التثقيل أو التخفيف.

وجميع المخارج الصوتية في اللسان العربي مستعملة متميزة بأصواتها، ولو لم يكن بينها غير فرق يسير في حركة الأجهزة الصوتية.

السليقة الشاعرية

فإذا انتقلنا من الحروف إلى الكلمات وجدنا السليقة الشاعرية ظاهرة بارزة، تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق.

وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات أن الوزن هو قِوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك العربية في قواعد الاشتقاق، لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفِّق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها.

آية الطبيعة الفنية

تشيع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية، كاللاتينية وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة.

إلا أن الإعراب العربي وافٍ مُقرّرُ القواعد يعُمّ أقسام الكلام أفعالا وأسماء وحروفا، حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات، ولا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد، أو علامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة، ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية، حيثما وقعت من عباراتها المفيدة.

وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة؛ توافرت لها جملا مفهومة بعد أن توافرت لها حروفا تجمع مخارج

النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفرداتٍ ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان.

فليس أوفق للشعر الموزون من العبارات التي تنتظم فيها حركات الإعراب، وتتقابل فيها مقاطع العروض وأبواب الأوزان وعلامات الإعراب.

المصدر

اللغة الشاعرة لعباس محمود العقاد (طبعة مؤسسة هنداوي).

ملخص بتصرف (ص 7-33)