تعليم العربية من المراهقة إلى الرشد

الدكتور إسلام يسري علي

جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية

تعليم العربية لغة ثانية من المراهقة إلى الرشد*

 بعد أربعين عاما من الندوة العالمية الأولى لتعليم العربية للناطقين بغيرها (1978م) وبعد أكثر من أربعين عاما من إنشاء معهد الخرطوم الدولي (1974م) وبعد حصول  المئات على درجتي الماجستير والدكتوراه في هذا المجال من مؤسسات العالمين العربي والإسلامي، وبعد افتتاح المئات من برامج تعليم العربية في أنحاء العالم، نستطيع أن نقول إن تلك الفترة الماضية مثلت مرحلة التأسيس، وكانت أهم سمة لها "العمومية".

فقد ركز جل الكتب من السبعينات حتى الآن على تقديم خريطة عامة للمجال حيث نجد كتبا عدة تحمل فكرة (المرجع) الذي ألفه أستاذنا د. رشدي طعيمة -رحمه الله- في الثمانينيات، وصدرت الفكرة نفسها من د. فتحي يونس ود. عبد الرؤوف الشيخ (2003) ثم مرة ثالثة د. طعيمة بصحبة أستاذنا د. علي مدكور -رحمهما الله- ود. إيمان هريدي (2010).. ثم مرة رابعة من الدكتور محمود كامل الناقة (2017)..

ومعظم هذه الكتب تدور في فلك "الخريطة العامة" للمجال وهذه طبيعة تلك المرحلة -في ظني- ولمؤلفيها ثواب السابقين الرواد، إلا أنك لن تجد -مثلا- كتابا متخصصا في تقييم مهارة القراءة فقط على غرار كتاب Assessing reading    لمؤلفه J. Alderson أو المحادثة فقط على غرار Assessing speaking   لــSari Luoma ولن تجد كتابا في الإحصاء في مجال تعليم اللغة الثانية مثل كتاب Statistical Analyses for Language Assessment  لـ Lyle F. Bachman ولن تجد كتابا في مناهج البحث في تعليم اللغة الثانية إلا كتابا قديما مترجما (1991)، ولن تجد كتبا في البحوث النوعية ولا الكمية في مجال تعليم العربية، ولن تجد إلا كتابين في علم اللغة النفسي أحدهما في الثمانينيات والآخر في 2006،  ويصعب أن تجد كتبا متخصصة في تقانات تعليم العربية لغة ثانية.

ورغم صدور بحوث وكتب تعليمية تجاوزت عدة آلاف فلن تجد إلا ببلوغرافيا يتيمة حتى عام 1996، ولن تجد كتابا في إستراتيجيات تدريس اللغة إلا كتاب ربيكا أكسفورد (1990)، ولن تجد دراسة حديثة حول الأسس الثقافية تطويرا لدراسة طعيمة (1983م) رغم أهمية الموضوع لمؤلفي المواد التعليمية، ولن تجد قائمة عربية حديثة للمفردات الشائعة على غرار قائمة مكة (1984م)، أما بحوث تعليم العربية للأطفال ولمزدوجي اللغة ولأطفال العرب في المهجر فما زالت نادرة وإن كانت هناك جهود في مهدها.. وحتى الآن لا يوجد اختبار استعداد عربي للغات الأجنبية (حسب معلوماتي) ولا يوجد اختبار تكيفي في العربية، ولا توجد اختبارات في العربية لأغراض خاصة.. إننا أمام مساحات واسعة من العلم ما زالت فارغة.

وعلى الرغم من كمّ الكتب التي صدرت في الأعوام الخمسة الماضية من مؤسسات غير هادفة للربح فإن عدم خضوع هذه الكتب للتحكيم جعل فيها غثاء ليس بقليل مع ما ببعضها من فوائد.

إن الحالة الراهنة لمجال تعليم العربية تتضمن عددا من المشكلات العامة التي تحتاج إلى التعامل معها للخروج من "العمومية" التي قد لا يشعر بها البعض.. ولكن حتى تعرف عزيزي القارئ مدى الاتساع الطبيعي لهذا المجال فعليك أن تفكر..

هذا المجال له شقان لغوي وتربوي.. في كلية التربية ما لا يقل عن ستة أقسام رئيسة في كل قسم منها ستجد العديد من التخصصات الفرعية، ومن المفترض أن مجال تعليم اللغات للناطقين بغيرها يخضع للبحث في أغلب هذه الأقسام كل من زاويته وتخصصه، فباحث علم النفس سيدرس الجوانب النفسية في تعليم اللغة كما أنه المجال المعني بالاختبارات بالتعاون مع قسم المناهج، وباحث المناهج سيدرس القضايا المتعلقة بمنهج اللغة والمواد التعليمية بالتعاون مع قسم التقانات التعليمية، ومجال طرق التدريس سيدرس ما يحدث في الصف وما يسبقه وما يلحقه من عمليات والعلاقة بين المواد التعليمية والصف والمعلم والطلاب، وباحث التقانات التعليمية يدرس توظيف التقنية في تعليم اللغة، وباحث الصحة النفسية سيدرس تأثير العملية التعليمية على الدارسين، وباحث أصول التربية سيدرس الفلسفة والأسس بأنواعها وراء عملية تعليم اللغة، وباحث اقتصاد التعليم سيدرس العائد من عمليات تدريس اللغة، وباحث تاريخ التعليم سيدرس تعليم العربية في العصور والدول المختلفة، وباحث التربية المقارنة سيقارن بين نظم تعليم اللغات بين الأمم وباحث الإدارة التربوية سيدرس جوانب الإدارة والجودة ونظم برامج تعليم العربية.

ما سبق هو الجانب الأفقي في البحوث، وهناك الجانب الرأسي وهو تعليم العربية بداية من مرحلة الروضة حتى تعليم العربية لكبار السن المتقاعدين مرورا بتعليم العربية لأغراض خاصة. وكل ما سبق مجرد عناوين فقط دون أي تفاصيل.. وهذا في الشق التربوي فقط ولم نتكلم عن الشق اللغوي من علوم الأصوات والنحو والصرف والبلاغة والأدب.

أرأيت أن تعليم اللغة من المفروض أن يكون مجالا شديد التشعب والاتساع وأننا إذا ظللنا نفتي في كل شيء -دون تخصص-  سنظل على السطح ولن نترك للتّالين شيئا ذا قيمة.

إنني عندما أطالع الكتابات الغربية أجد كل باحث متخصص في نقطة ربما قضى فيها عقودا من حياته، فتجد كارول وبكمان وجلين فيلشر وماك نمارا في الاختبارات وتجد براين نورث في الإطار المرجعي وتجد جاك ريتشاردز في المناهج وتجد توم هتشنسون في تعليم اللغة لأغراض خاصة، أما نحن فلدينا القدرة على الإفتاء في كل شيء من أول تحضير الدرس إلى نظرية الاستجابة للمفردة.. والعيب في القارئ الذي لا يميز بين العلم واللهو!!

جانب آخر من الأزمة، تجد برامج لإعداد المتخصصين في المجال يقوم عليها أساتذة غير متخصصين أصلا، وهذه البرامج تخرج متخرجين معهم شهادات عليا لكن بلا علم، ولا تعرف من الجاني ومن المجني عليه في تلك المأساة.

جانب آخر المؤسسات التي لم تجد طلابا فتحولت لإعداد معلمين يتخرجون فلا يجدون عملا، نظرا لأن العمل في هذا المجال يتطلب ظروفا سياسية وأمنية واجتماعية في البلد تناسب حضور ومعيشة الأجانب فيه، وحين لا تتوفر هذه الظروف يصبح تخريج معلمين جدد أمرا غير منطقي إن لم يكن نوعا من خداع البسطاء.

مشكلة أخرى وهي أنه حتى الآن لم يعرف عالمنا العربي وربما الإسلامي شيئا اسمه "رخصة معلم"، فأي شخص يمكن أن يعلِّم بغض النظر عن مؤهلاته أو خبرته أو شخصيته..  وحتى الآن لا توجد معايير جودة لمراكز تعليم اللغة العربية متفق عليها رغم أن د. طعيمة طرح تصورا لهذا الأمر منذ 2003**، لذلك هناك آلاف الطلاب يدرسون اللغة العربية لمدة سنة دراسية كاملة في الجامعة ولا يتجاوزون المستوىA2   وعندما تراهم تشعر بالأسى للأوقات والأموال التي تهدرها هذه الأمة.

ومن مظاهر المراهقة في هذا المجال تلك المؤتمرات التي تعمل بنظرية "ادفع وتكلم وانشر"، فليس مطلوبا للاشتراك إلا النقود، ثم تصل للمؤتمر -كباحث جاد- بعد رحلة سفر وحجز فندق واستخراج تأشيرة وإجازة من مكان عملك ومصروفات اشتراك فتجد كثيرا من الأوراق الهزيلة وكلاما غير منهجي ونتائج خطابية لا تعرف من أين توصل إليها كاتبها. وحقيقة في ظل ضعف الميزانيات المخصصة للبحث العلمي فلا أجد مشكلة مع المؤتمرات أو الدوريات المدفوعة الاشتراك لكن هناك ألف تحفظ على غياب الجودة في البحوث المقبولة في تلك المؤتمرات التي تهدر عددا من القيم وتفقد الثقة في وسيلة "المؤتمر" كمنتدى للباحثين والعلماء.

ومن صور المراهقة التي يعيشها المجال أيضا تلك المؤسسات الكرنفالية، وأعني بها تلك المؤسسات التي من المفترض أن ترعى العربية وتنهض بها وبتعليمها ولا تهدف للربح، لكنك تجد أن مهمتها اختصرت في طقوس كرنفالية في بعض المواسم السنوية، واحتفالات هنا وهناك أو مؤتمرات خطابية تعرض فيها أوراق مستهلكة.. وفي النهاية تنتظر أن ترى ثمرة أو مشروعا يضيف لأهل العربية شيئا فلا تحصل إلا على مجموعة من صور القائمين على تلك الجهات بصحبة مجموعة من اللوحات عن حب العربية!

وحتى لا ألعن الظلام دون أن أوقد شمعة، أقترح أن نسعى في الفترة القادمة للانتقال إلى مرحلة الرشد التي أرى أن أهم ملامحها: الحصر وسد الفجوات والتخصص والتعريب والرعاية.

الحصر: علينا حصر ما هو موجود بالفعل، فمعهد الخرطوم وحده أنجز فيه أكثر من ألف ماجستير لا يعلم أحد عنها شيئا وهناك مؤسسات أخرى كمعهد المدينة المنورة والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا كل منهما خرّج مئات المتخصصين وتكرم بوضع الملخصات في موقعه، لكن متى يكون لنا إمكانية الاطلاع على البحوث ذاتها عبر قاعدة بيانات عالمية مثل بقية الباحثين في الكوكب؟

كما أن هناك عشرات من المؤسسات في العالم تبحث في تعليم العربية وفي دول ذات أغلبية مسلمة كبيرة مثل باكستان وإندونيسيا وبنغلاديش ونيجيريا والسنغال ولا نعرف عن إنجازاتهم شيئا وأغلب من يحضرون من تلك الدول في مؤتمرات العربية يتحدثون في أمور عامة، كل هذا فضلا عن بحوث العربية في الغرب التي تكتب بالإنجليزية أو بلغات أخرى والتي تحتاج لفِرق من المترجمين والمحررين للاستفادة منها بشكل أوسع.

سد الفجوات: في ضوء الحصر وما سنعلمه عن واقعنا، على الباحثين أن يحددوا ما المناطق التي لم تبحث بعد، في ضوء اطلاعهم على الدراسات والبحوث التطبيقية في اللغات الأخرى لبناء خريطة بحثية مستقبلية.

التخصص: إنني أدعو أن يركز كل منا على منطقة في مجال تعليم العربية في ضوء دراسته في الماجستير والدكتوراه واهتماماته الشخصية وأن يسعى للإنتاج فيها، وأن ينتج جديدا لا يجتر ما كُتب من قبل.. كما أن القائمين على برامج الماجستير والدكتوراه عليهم مساعدة شباب الباحثين على اختيار مشرفي الماجستير والدكتوراه من المتخصصين في نقاط بحثهم الدقيقة تجبنا لإخراج بحوث هزيلة تحتاج إلى ضبط من العنوان إلى المراجع.

الأمر نفسه أراه للمؤتمرات فلابد أن يكون للمؤتمر محاور محددة ومحدودة، وحبذا لو تعاونت المؤسسات في الدولة الواحدة لمنع التضارب في المؤتمرات ومواعيدها، وأتذكر أنه في عام 2016 وحده أحصيت 12 مؤتمرا في تعليم العربية للناطقين بغيرها***، وعقد في مدينة إسطنبول وحدها 4 مؤتمرات خلال 16 شهرا، فماذا سيحدث لو تعاونت المؤسسات في تنظيم مؤتمر واحد في العام وتحولت بقية الفعاليات لندوات تركز كل منها على مشكلة واحدة فقط وتخرج بحلول للتعامل معها بدلا من الكلام الذي ينسي بعضه بعضا.

التعريب: علينا أيضا أن نشجع التعريب، فلا شك أن بحوث تعليم الإنجليزية سبقتنا بعقود على المستوى الكمي والكيفي، وحتى أدلل على ذلك نجد الآن مؤسسة أمريكية أنتجت اختبارا عربيا محوسبا لقياس الكفاءة الشفهية (الأسئلة والإجابة والتصحيح عبر الحاسوب) في وقت ما زلنا ندور فيه حول أنفسنا لعمل اختبار ورقي معترف به عالميا.

الرعاية: علينا تشجيع المؤسسات غير الهادفة للربح على رعاية الكتب والبحوث والمؤتمرات والندوات والمبادرات الجادة عموما، فعلى سبيل المثال لكي يؤلف المؤلف كتابا محترما ذا قيمة فهذا العمل يحتاج إلى وقت طويل وجهد وصبر ومال، وعند طرح الكتاب للجمهور أول سؤال يصل المؤلف -ربما قبل التهنئة- هل الكتاب متاح بصيغة بي دي إف!!! وإن لم يتح الكتاب فستجد جمعية محبي الخير تقوم بمسح الكتاب ضوئيا ووضعه على الإنترنت مجانا وتزين كل صفحة من الكتاب باسم صفحتها حماية لملكيتها الفكرية في قرصنة الكتاب.. ولا عزاء للمؤلف والناشر.. وفي رأيي أن الباحث معذور، فالظروف تجعلنا أحيانا نبحث عن المنتج المجاني ونعطي ضمائرنا إجازة مؤقتة.. والمَخْرَجُ من ذلك هو أن تتولى مؤسسات غير هادفة للربح تمويل تأليف الكتب الأكاديمية وتقديمها مجانا للجمهور وكذلك رعاية الفعاليات العلمية الأخرى.

 

حاولت في المقال تلمس جوانب القصور الحالي في مجال تعليم العربية ولا أدعي أني أحصيت كل شيء،  كما طرحت عددا من الأهداف التي علينا أن نصل إليها.. لكن ما سبق في رأيي هو رؤوس أقلام في كتاب كبير يحتاج لمساهمات الغيورين على العربية على أمل الانتقال بها من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشد .. وللحديث بقية.

 

الهوامش:

* أستأذن الإمام يوسف القرضاوي في استعارة عنوان كتابه "الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد"  ليكون عنوانا لهذا المقال، حيث لم أجد خيرا منه تعبيرا عن حالة المجال.

* قصدت باللغة الثانية أي لغة يضيفها المتعلم للغته الأم.

** انظر الصفحة العلمية للأستاذ الدكتور رشدي طعيمة على الإنترنت

*** ارجع لصفحتي العلمية مقال بعنوان  " 2016 عام المؤتمرات".

 

 مدونات سابقة