أما المحبة فإنها تُبْلِغُ المرءَ مبلغَ الفضلِ في كل شيء من أمرِ الدنيا والآخرة حين يؤثره بمحبته، فلا يكون شيءٌ أمرأَ ولا أحلى عنده منه.
وأما الطلبُ فإن الناس لا يُغْنيهم حبُّهم ما يحبّون وهواهم ما يهوَوْن عن طلبه وابتغائه..
وأما التثبّتُ والتخَيُّرُ فإن الطلب لا ينفعُ إلا معهما وبهما؛ فكم من طالبِ رشدٍ وجده والغَيَّ معًا، فاصطفى منهُما الذي منه هرب، وألغى الذي إليه سعى. فإذا كان الطالبُ يحوي غير ما يريد، وهو لا يشك في الظَّفَر، فما أحقَّه بشدّةِ التبيّنِ وحسنِ الابتغاء!
وأما اعتِياد الشيء بعد استبانته، فهو ما يُطْلَب من إحراز الفضل بعد معرفته.
وأما الحفظُ والتعهد فهما تمام الدَّرْك؛ لأن الإنسان موكل به النسيانُ والغفلةُ، فلا بد لهُ، إذا اجتبَى صوابَ قَوْلٍ أو فِعْلٍ، من أن يحفظه في ذهنه لِأَوَانِ حاجته.
وأما البصرُ بالموضع فإنما تصير المنافعُ كلُّها إلى وضعِ الأشياء مواضعَها.
وبنا إلى هذا كله حاجةٌ شديدةٌ؛ فإنا لم نوضع في الدنيا موضعَ غِنًى وخَفْضٍ، ولكن بموضعِ فاقة وكدّ، ولسنا إلى ما يُمْسِك أرْماقنا من المأكل والمشرب بأحوَجَ منا إلى ما يُثْبِتُ عقولنا من الأدب الذي به تفاوُتُ العقول.
وليس غِذاءُ الطعام بأسرعَ في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ولسنا بالكدّ في طلب المتاع الذي يُلْتمَس به دفعُ الضررِ والغلبةُ، بأحقَّ منا بالكدّ في طلب العلم الذي يُلْتَمَس به صلاحُ الدين والدنيا.
المصدر:
الأدب الصغير لابن المقفع بتحقيق أحمد زكي باشا
ص 8-10 (بتصرف).