(1)
أما بعد؛ حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة ووفّقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجلّ جعل الناسَ بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أصنافًا وإن كانوا في الحقيقة سواءً، وصرَّفهم في صنوف الصناعات، وضُروب المحاولات إلى أسباب معايشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم مَعْشَرَ الكُتّاب في أشرف الجهات، أهلَ الأدب والمروءة، والعلم والرّويّة، بكم تَنْتَظِم لِلخلافة محاسنُها وتستقيم أمورُها، وبنصائحكم يُصْلِحُ اللهُ للخلق سلطانَهم، وتَعْمُر بلدانُهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم؛ فموقعُكم من الملوك موقعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارِهم التي بها يبصرون، وألسنتِهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمْتعكم اللهُ بما خصّكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم.
(2)
وليس أحد من أهل الصناعات كلِّها أحوجَ إلى استخراج خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة، منكم أيّها الكتّاب؛ فإن الكاتب يحتاج في نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمّات أموره، أن يكون حليمًا في موضع الحلم، فَهِمًا في موضع الحُكْم، مِقْدامًا في موضع الإقدام، مُحْجِمًا في موضع الإحجام، مُؤْثِرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كَتُومًا للأسرار، وفِيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل؛ يضع الأمورَ مواضِعَها والطوارِقَ في أماكنها، قد نَظَر في كل فنٍّ من فنون العلم فأحْكَمه، فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به، يكاد يَعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجرِبته، ما يَرِد عليه قبل وروده، وعاقبةَ ما يصدُر عنه قبل صدوره، فيُعِدُّ لكلّ أمر عُدّتَه وعَتاده، ويُهيِّئ لكل وجْه هيئتَه وعادته.
(3)
فتنافسوا في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض، ثم العربية فإنها ثِقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخطَّ فإنه حِلْية كتبكم، وارْوُوا الأشعارَ واعرفوا غريبَها ومعانيَها، وأيام العرب وأحاديثَها وسِيَرَها؛ فإن ذلك مُعين لكم على ما تسمو إليه هِمَمُكم.
ولا تضيّعوا النظرَ في الحساب فإنه قِوام كُتّاب الخَرَاج منكم، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنِيِّها ودَنِيِّها ومَساوِئ الأمور ومَحاقِرها؛ فإنها مَذَلّة للرقاب مَفْسَدة للكُتّاب، ونزِّهوا صناعتكم عن الدناءة وارْبَؤوا بأنفسكم عن السِّعايَة والنميمة.
(4)
وإن نَبَا الزمانُ برجل منكم فاعطِفُوا عليه وآسُوه حتى ترجع إليه حاله، وإن أقعد الكِبَرُ أحدَكم عن مَكْسَبه ولقاء إخوانه، فزُورُوه وعظّموه وشاوِروه، واستَظْهِروا بفضل تجربته وقديم معرفته.
واستعينوا على عفافكم بالقصد، واحذروا مَتَالِف السرف، وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يُعْقِبان الفقر، ويُذِلّان الرقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتّاب وأرباب الآداب.
والأمور أشباهٌ وبعضها دليل على بعض، فاستدلّوا على مُؤْتَنَف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحَها مَحَجّةً وأصدقَها حُجّةً وأحمدَها عاقبةً.
(5)
وليَقْصِد الرجل منكم في منطقه، وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخُذ بمجامع حُجَجه؛ فإن ذلك مَصْلحة لعقله ومَجَمّةٌ لذهنه.
(6)
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته، ومصاحبه في خدمته؛ فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعُجْب وراء ظهره، ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته.
فإن عرضت في العمل مَحْمَدَة فليضفها إلى صاحبه، وإن عرضت مَذَمّة فليحملها هو مِن دونه، وليحذر السَّقْطة والزلة، والملل عند تغيُّر الحال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر:
رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب إلى الكتّاب (بتصرف).
وقد اعتمدنا في توثيق الرسالة على المراجع التالية:
-الوزراء والكتاب للجهشياري، البابي الحلبي (1938)، ص 73-79.
-صبح الأعشى، دار الكتب المصرية (1922)، 1/85-89.
-أمراء البيان، مكتبة الثقافة الدينية (2012)، ص 89-94.