حدّث ياقوت الحموي قال:
وَرَدْتُ إلى آمِد سنةَ 594 للهجرة، فرأيت أهلها مُطْبِقين على وَصْف أبي الحسين النحوي اللغوي الشاعر، المعروف بشُمَيم الحِلِّي، بإحكام العربية وكَثْرة حِفْظ الأشعار، فقصدته في مسجد يُسمّى مسجدَ الخَضِر، فوجدته شيخا كبيرا نحيف الجسم، في حُجْرة من حُجَر المسجد، وبين يديه وِعَاءٌ كبير مملوءٌ بكُتُب من تصانيفه، فسلّمت عليه وجلست بين يديه، فأقبل عليّ وقال: من أين أنت؟
قلت: من بغداد.
فهشّ بي وأقبل يسائلني عنها وأنا أخبره.
ثم قلت له: إنما جئت لأقْتبِس من علوم مولانا شيئا!
فقال لي: وأيَّ علم تحبّ؟
قلت: أحبّ علوم الأدب.
فقال: إن تصانيفي في الأدب كثيرة؛ لأن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وأشعارَهم وبوّبُوها، فكنت كلَّما رأيت الناس مُجْمِعين على استحسان كتاب في نوع من الآداب؛ استعملت فِكْري وأنشأت من جنسه ما أدْحَضُ به المتقدِّم.
فمن ذلك أن أبا تمّام جمع أشعار العرب في حماسته، وأنا عَمِلْت حماسةً من أشعاري وبنات أفكاري!
ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نُوَاس في وصف الخمر، فعمِلت كتاب الخَمْريّات من شعري، ولو سمعه أبو نواس لاسْتحْيَى من شعر نفسه!
فقلت له: أنشدني شيئا مما قلت.
فأنشدني شيئا من نثره وشعره، فاستحسنته!
فغضِب وقال: ويلك! ما عندك غير الاستحسان؟
قلت: فما أصنع يا مولانا؟
فقال: تصنع هكذا؛ ثم قام يرقص ويصفّق إلى أن تَعِب!
ثم جلس وهو يقول: ما أصنع، وقد ابْتُلِيتُ ببهائمَ لا يفرّقون بين الدُّرّ والبعر، والياقوت والحجر؟!
فاعتذرت إليه وسألته أن ينشدني شيئا آخر.
فقال: قد صنَّفْتُ كتابا سميته أنيس الجليس في التجنيس؛ في مدح صلاح الدين الأيوبي، فأنا أُنشِدك منه.
ثم سألته عمن تقدم من العلماء فلم يُحْسِن الثناء على أحد منهم.
فسألته عن أبي العلاء المعري فنهَرني وقال:
ويلك! كم تسيء الأدب بين يديّ؟
فقلت: يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدّم!
فقال: كيف أرضى عنهم وليس لأحد منهم ما يُرْضِيني؟
قلت: ما جاء أحد منهم قَطُّ بما يُرْضيك؟
قال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبّي في مديحه، أو ابن نُباتَة في خُطَبه، أو الحريري في مقاماته، فهؤلاء لم يقصِّروا!
*المصدر
معجم الأدباء لياقوت الحموي بتحقيق إحسان عباس
(دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1993)
ج 4 ص 1689–1692 (بتصرف).