فقال التوحيدي: بالواجب ما وقع هذا؛ فإن الفارسي ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربي، ولا في جِبِلّة العربي وديدنه أن يُقِرّ بفضل الفارسي، وكذلك الهنديُّ والرومي والتركي والديلمي.
وبعد؛ فاعتبار الفضل والشرف موقوفٌ على ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأول والآخِر.
وإذا وقف الأمر على هذا فلكل أمة فضائلُ ورذائلُ، ولكل قوم محاسنُ ومساوئُ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحَلّها وعَقدها كمالٌ وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيراتِ والفضائلَ والشرور والنقائص مفاضةٌ على جميع الخلق، مفضوضةٌ بين كلهم.
فللفرس السياسةُ والآداب والحدود والرسوم، وللروم الحكمةُ، وللهند الفكر والرّويّةُ والخِفّة والسحر والأناة، وللترك الشجاعةُ والإقدام، وللزّنج الصبرُ والكدّ والفرح، وللعرب النجدةُ والقرى والوفاء والبلاء والجود والذِّمام والخَطابة والبيان.
ثم إن هذه الفضائلَ المذكورةَ، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكل واحد من أفرادها، بل هي الشائعةُ بينها، ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها، وموسومٌ بأضدادها؛ يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خالٍ من الأدب، داخل في الرَّعاع والهمج، وكذلك العرب لا تخلو من جبان جاهل طيّاش بخيل عَيِيٍّ، وكذلك الهند والروم وغيرهم؛ فعلى هذا إذا قُوبِل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقَوْا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوتٌ إلا في مقاديرِ الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تَخُصّ بل تَلُمّ.
وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى، تلاقَوْا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوتٌ إلا في الأقدار والحدود، وتلك لا يُلْتَفَت إليها، ولا يُعار عليها، فقد بان بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائلَ والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة، ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناسُ بينهم بالنسبة الترابية، والعادة المَنشئِيّة والهوى الغالب من النفس الغضبية، والنزاعِ الهائج من القوة الشهوية.
المصدر
الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (طبعة أحمد أمين) لجنة التأليف والترجمة والنشر 1942.
1/73-74 (بتصرف يسير).