كيف يُكْتَسَب الأسلوبُ البليغ؟

General Language | Proficiency

1

السلام عليك!

لقد تخيَّلتَ كثيرا في الوصيّة التي تطلبها، وما أُشبِّهك إلا برجل لا يصلّي ولا يصوم ولا يُؤْتي الزكاة ولا يحُجّ، ثم يريد أن يُخْرِجَ كفّارةً تُسْقِط عنه كلَّ ذلك، ويبقى وادعا مستريحا وله ثواب الصائم بدريهمات معدودة!

2

الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعب طويل في الدّرْس وممارسة الكتابة والتقلُّب في مناحيها والبصر بأوضاع اللغة، وهذا عمل كان المرحوم الشيخ محمد عبده يقدِّر أنه لا يتِمّ للإنسان في أقل من عشرين سنة، فالكاتب لا يبلُغ أن يكون كاتبا حتى يقطع هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة.

3

فإذا أوصيتك فإني أُوصِيك أن تكثر من قراءة القرآن ومراجعة الكَشّاف (تفسير الزمخشري)، ثم إدمان النظر في كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري أو غيره، ثم قَطْع النفس في قراءة آثار ابن المُقَفّع (كليلة ودمنة واليتيمة والأدب الصغير)، ثم رسائل الجاحظ، وكتاب البخلاء، ثم نَهْج البلاغة، مع إطالة النظر في كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، والمثل السائر لابن الأثير، ثم الإكثار من مراجعة أساس البلاغة للزمخشري.

فإن نالت يدُك مع ذلك كتابَ الأغاني والعقد الفريد وتاريخ الطبري فقد تمّت لك كتب الأسلوب البليغ.

4

اقرأ القطعة من الكلام مرارا كثيرة ثم تدبّرْها وقلِّب تراكيبها، ثم احذف منها عبارة أو كلمة وضع من عندك ما يسُدّ مَسَدَّها ولا يَقْصُر عنها، واجتهد في ذلك، فإن استقام لك الأمر فترقَّ إلى درجة أخرى، وهي أن تعارض القطعة نفسها بقطعة تكتبها في معناها وبمثل أسلوبها، فإن جاءت قطعتك ضعيفة فخُذْ في غيرها ثم غيرها حتى تأتي قريبا من الأصل أو مثله.

5

اجعل لك كل يوم درسا أو درسين على هذا النحو؛ اقرأ أولا في كتاب بليغ نحوَ نصف ساعة، ثم اختر قطعة منه فاقرأها حتى تقْتُلَها قراءة، ثم خذ في معارضتها على الوجه الذي تقدّم (تغيير العبارة أولا ثم معارضة القطعة كلها ثانيا)، واقطع سائر اليوم في القراءة والمراجعة.

ومتى شعَرْت بتعب فدع القراءة أو العمل حتى تستَجِمّ ثم ارجع إلى عملك ولا تُهْمل جانب الفكر والتصوُّر وحسن التخييل ...

6

وما أرى أحدا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الأدبية الشاقة، كما تحكم المحاكم بالأشغال البدنية الشاقة!

فاحكم على نفسك بهذه الأشغال سنتين أو ثلاثا في سجن الجاحظ أو ابن المقفّع أو غيرهما!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مصطفى صادق الرافعي.

 المصدر:

(محمود أبو رية: من رسائل الرافعي، دار المعارف بمصر).

ص 52-53-54 (بتصرف يسير).