صديقي العزيز!
أنا الآن غارق في الأدب العربي، أريد أن أدرس قضيته من أساسها...
أريد أن أُعِيد النظر في أمر اللغة العربية، وأَكشِف أسرارها، وأضع إِصْبَعي على مواطن ضعفها وقوتها.
وهذا الوقت هو خير وقت أستطيع فيه أن أرى وأميّز وأُحْسِنَ الحُكم؛ فقد طافت عيناي بمختلِف الآداب العالمية.
إنني الآن أقرأ نصوص الأدب العربي في عصوره المتعاقبة بعين جديدة، عينٍ عامرة بالصور حافلةٍ بالمقارنات، وبنفْسٍ رحيمة عادلة صابرة، تلْتمس العلل والأسباب، وتُطيل التريُّث والبحث قبل أن تُصْدِر الأحكام!
لم يكن أولئك الذين علّمونا اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية، يجهلون معنى اللغة العربية فحسب، بل كانوا يجهلون معنى اللغة من الأساس!
ولقد كانت النماذج التي وُضعت بين أيدينا، ونحن صغار، للبلاغة العربية غَثّةَ المعنى متكلَّفةَ المَبْنَى!
وحتى الشعرُ، وهو مفخرة اللغة العربية، وكان يجب أن تَرى فيه نفوسُنا المتفتّحةُ أولَ لون من ألوان الفن، انتخبوا لنا منه قصائد المواعظ والحكم!
وإن من الموعظة والحكمة ما يعرف الشاعر الحقُّ كيف يُلْبِسه من الصُّوَر الحسّية والذهنية ما يرفعه إلى مرتبة الفن العالي؛ كما فعل أبو العلاء والمتنبي والنابغة الذُّبياني في بعض قصائدهم، ولكنّ التخيُّر في هذا الباب يحتاج إلى حاسة فنية لا يملكها كل أحد.
على أنك إذا أردت أن تعرف جلال اللغة العربية في بساطتها وسيرها قُدُما نحو الغرض؛ فاقرأها عند الفلاسفة والمؤرّخين العرب، فإنهم يعرفون حقيقة ما يقولون، ولا يضيّعون الوقت في العبث اللفظيّ والطِّلاء السطحيّ، بل يتحدثون في شؤونٍ فكرية واجتماعية وأخلاقية، بلغة سهلة مستقيمة، لا لعبَ فيها ولا لهوَ ولا ادعاءَ.
وإني لأَدْهَش كيف أن مؤلِّفِين مثل الطبري وابن خلدون وابن رشد والغزالي، لم يُعْرَضُوا علينا قطّ في دراستنا للأدب العربي بالمدارس!
كيف نعرف لغة دون أن نقرأ لفلاسفتها ومؤرخيها؟
إن تدريس اللغة يجب أن يشمل كل نواحي التعبير بها، أما قَصْر تعليمها على نماذج البلاغة اللفظية الجوفاء فهو امتهانٌ لكرامتها وانتقاصٌ من قدرتها على الأداء.
توفيق الحكيم
زهرة العمر/ الهيئة المصرية العامة للكتاب
ص (214—222) بتصرف.