عودة المشتاق!

General Language | Proficiency

أمسَى أبو بكر بن عبد الرحمن ذات ليلة كئيبا محزونا على غير عادته وبات يتقلب على فراشه كالملسوع دون أن يدريَ أحد سرّ همّه واكتئابه.

ولما سألته زوجتُه الشابة الجميلة عما به أبَى في أول الأمر أن يُفضيَ إليها بِذاتِ صدره وجعل يَنتحِل لها المعاذيرَ ويوهمها أن به وعكةً خفيفةً مالت بمزاجه عن الاعتدال.

وظل بعدها أيامًا يكاتمها سرَّ همّه، وربما تكلّف لها البشرَ والبشاشة لِيبدي لها أن ما به قد زال، وأنه قد عاد إلى سالف مَرَحه وسعادته، ولكنّ عينَها الولهْى وقلبَها العامرَ بالحب كانا يكشفان لها بالنظر والإحساس الصادقين أن شيئًا ما قد طرأ على حال زوجها وأنه حريص على كتمانه عنها.

ولما ألحَّتْ عليه في معرفة ما به أنبأها في رقة وأسى بأن المال الذي في يده قد أوشك أن يَنفَد، وبأنه يعتزم السفر إلى الشام ليتّجِر هناك عسى أن يربح ما يصلح به حاله.

ولم يكن عَجَبًا أن ينفَد المال الذي في يد أبي بكر على سعة ثرائه؛ فقد كان مُفْرِطَ الجود، مُتَخَرِّقَ الكفّ، ينفق على المُعْوِزين من أصحابه وغيرهم إنفاقَ من لا يخشَى الفقرَ.

وكان مُولَعا خاصة بتحمّل المغارم وإقالة العَثَرات. وقد تضاعف جوده بعد أن تمت عليه نعمة الزواج؛ كأنما يريد أن يُفيض من سعادته على الناس فلا يرى بينهم وجهَ بائس أو محروم.

 ولما فَصَلَ الرَّكْبُ الصغير من المدينة مُيَمِّمًا شطرَ الشام ألقى أبو بكر نظرةً دامعةً على آخر معالم المدينة وهي تختفي رويدا عن ناظريه، فلما غابت كفكف دمعه وأظهر التجلُّد واستقبل الطريق البعيد بقلب صابر ونفس مطمئنّة.

ومضت أيام.. حتى انتهوا ذات يوم إلى بُقعة ذات ظل وماء، فأناخوا مُظْهِرين ليستريحوا تحت ظلال نُخَيْلات بها ريثما يَبرُد حرُّ الشمس من العشيّة فيستأنفون السُّرى مُدلجين.

والتفت أبو بكر إلى الجمّال وسأله: ما اسم هذه البقعة يا عامر؟

فقال الجمّال: هذه بَلاكِثُ.

فقال أبو بكر: بَلاكِث! هذا اسم غريب ما سمعت به في حياتي قطُّ.

فقال الجمّال مندهشا: هذا عجيب! إن لهذا الموضع لَشُهرةً عظيمة منذ خلّده ذلك الشاعر بأبياته السائرة.

فسأله أبو بكر باهتمام: أيَّ شاعر تعني؟

فقال الجمّال: شاعر لا يهتم الناس باسمه قدرَ ما يهتمون بالحادث الظريف الذي وقع له في هذا المكان.

قال أبو بكر: وماذا حدث له؟

قال الجمّال: يزعُمون أنه رحل عن دمشق مغاضِبا زوجتَه لخلاف وقع بينهما وكان شديد الحب لها في الباطن، فلما بلغ هذا الموضع في طريقه إلى المدينة هزّتْه الذكرَى وغلبه الوجدُ فأنشأ تلك الأبيات التي سارت بها الرُّكْبان، ثم كَرّ راجعًا إلى بلده.

قال أبو بكر: أَنشِدْني تلك الأبيات.

فتنحْنَح الجمَّال قليلا ثم أنشد:

بينما نَحْنُ مِـن بَلاكِـثَ بالقـاعِ  سراعـا والعِيـسُ تَهـْوِي هُوِيـَّا

خطرت خطرةٌ على القلب من ذكراكِ وَهْنا فمـا استطعـتُ مُضيَّـا

قلتُ لبيكِ إذ دعاني لـك الشـوقُ وللحادييْـن كُـرّا المطـيّا!

فاستعادها أبو بكر منه مرارا ثم انفتل عن صاحبيه نحو العين الجارية فطفِق يغسلُ يديه ويرشُّ الماء بين عينيه ليعفّيَ على آثار الدمع.

ثم ما لبث أن قال لصاحبيه شُدَّا الرِّحال!

وما إن نهض الجملان من مَبْرَكِهما حتى وثَب أبو بكر فامتطى راحلته وأدارها صوب المدينة! 

فصاح به الجمّال: من هنا يا سيدي.. من هنا الطريق.

قال أبو بكر: بل من هنا يا أخا العرب!

والله لا تكون دمشقُ أعزَّ على أهلها من طيبةَ على أهل طيبة!

 

المصدر

قصّة عودة المشتاق للأديب علي أحمد باكثير (بتصرف).

قواعدGrammar

المفعول به

 * المفعول به اسم أو تركيب يدل على ما وقع عليه الفعل.

* قد يكون المفعول به:

- اسمًا ظاهرًا منصوبًا مثل: دون أن يدريَ أحد سرَّ همه واكتئابه.

- ضميرًا في محل نصب مثل: يكاتمـها سرَّ همه.

- جملة في محل نصب مثل: أنبأها بأن المال الذي في يده يوشك أن ينفد.

-جارًّا ومجرورًا: ولما سألته زوجته عما به..

* موقعه:

الأصل في ترتيب الجملة الفعلية أن تبدأ بالفعل فيليه الفاعل فالمفعول به، ثم بقية العناصر المكمّلة للمعنى المراد، مثل: اعتزم أبو بكر مفارقة المدينة إلى الشام بحثا عن المال.

وقد يتقدم المفعول به إذا أُمِن اللبس مثل: أيَّ شاعر تعني؟

 

لمزيد من المعلومات والتدريب يمكنكم مراجعة درس المفعول به في الموقع.