Language of Media | Proficiency
في أحيان كثيرة تنجح حملات الحروب النفسية الدائبة في أن تقنع الرأي العام في الشعوب المظلومة بسطوة وقوة وحتمية جبروت الإمبريالية السافر القادر على رسم حدود الأوطان، وتطويع إرادتها على نحو ما يريده المستعمر، أو على نحو ما تقرره توجهات ساسته أو نزواتهم أو تحالفاتهم المرحلية، أو تطورات إستراتيجياتهم المفصلية.
ومع تكرار سيطرة هذه الفكرة واستحواذها على الرأي العام ولغة الخطاب الإعلامي السياسي الموجه إلى الشعوب المستضعفة؛ تتحول معارضتها الجادة إلى نوع من النحت في الصخر.
بيد أن الحاجة إلى الصراع الوجودي حفظت للبشرية درجاتٍ معقولةً من الحرص الصادق على احترام الذات والهوية، وخلقت من آليات التفاعل وردود الفعل ما مكّن الإنسانية نفسها -على مدى تاريخها الطويل- من أن تتجنب الانسحاق لقوة العتاد الحربي، وهو الانسحاق الكفيل نظريا بنهاية البشرية والجنس البشري.
ومع هذا؛ فإن طموحات القوى التوسعية كانت -ولا تزال- تدفع بالصراعات المتجددة إلى زوايا وكواليس الحروب النفسية، التي تجعل فكرة الانهزام تحت شعار الاعتدال الذكي بمثابة أحد البدائل غير المستبعَدة.
وهكذا كانت فكرة صلصالية الدول الصغيرة تعود من آن لآخر لتُطلّ برأسها في بعض المواقف التي بدت للمتعاملين معها مستعصية على الحسم، ومستعصية أيضا على التفاوض. وكانت هذه الفكرة -وهذا هو موطن الاعتبار- تلقى قبولا لدى المؤمنين أو المقتنعين بصحة نظرية المؤامرة.
ومع أن التاريخ علّمنا -بوقائعه المتعددة ومساره المتصل- أن فكرة الصلصالية أو القابلية للتشكل لا تعدو أن تكون أكذوبة كبرى، فإن المعضلة الحادة تمثلت في عدم الاقتناع الذاتي أو انعدام الرضا الداخلي. إذ إن فكرة التشكيل التوافقي ناقضت نفسها بنفسها وجاءها التآكل من داخلها، بل بلغ الأمر عند معارضي آلية التشكل أن اعتبروا التكوين المتشكل مرتبطا بشخص مَنْ أتمّه، وهو مستدعى للزوال أو للانفصام بعد وفاة ذلك الدكتاتور الذي أتمه.
والواقع أن التاريخ المعاصر قد علّمنا أن نظرية التكوين المتشكل بالسياسة شهدت انهيارها المدوّي بدون سابق إنذار، وكان السبب في غياب الإنذار هو الاعتماد على فاعلية وكفاءة ذلك الستار الحديدي الذي اقترن وجوده هو نفسه بوجود هذه النظرية ثم انهار معها.
وقد جاء هذا الانهيار على صورة لم تستطع كل مراكز الأبحاث أن تتنبأ بها أو أن تتوقع سرعتها، لكن الصورة نفسها كانت هي الطبيعة الفيزيقية الملازمة لكل الانهيارات في كل المادّيات.
وهكذا فإنه -في وقت واحد تقريبا- حدثت الانفراطات الثلاثة في الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغسلافي وحلف وارسو؛ ومع أن جوزيف بروز تيتو –وهو رمز الاتحاد اليوغسلافي- كان قد توفي في 1980، فإنه لم يكن أحد ليصدق نبوءته المتوقعة لانهيار الاتحاد اليوغسلافي بغيابه، وعجزه هو نفسه عن أن يجد خليفة حقيقيا له، لكن هذا هو ما حدث.
بعيدا -في الظاهر- عن هذه الدروس الواضحة الدلالة، وقريبا تماما من جوهرها؛ فإن العقول المعنية بمستقبل منطقة الشرق الأوسط تحاول الآن -على مضض وبشيء من الأرق- أن تحل مشكلاتها السياسية والنفسية والنفوذية، بمحاولة اتباع أي نموذج من نماذج إعادة التشكيل.
وذلك رغم الاستحالة الظاهرية لنجاح مثل هذه الحلول في العصر الذي نعيشه، والذي تحولت البشرية فيه إلى قرية صغيرة.
هذا فضلا عن أن المشكلات البنيوية التي تعانيها المنطقة لا ترتبط في تفكيكها بإعادة التشكيل، ولا بإعادة النظر في الديموغرافيا الحاكمة.
ويبدو لي -بوضوح وبلا مبالغة في التبسيط أو الاختزال- أن السبب الرئيسي في ظهور الدعوة إلى مثل هذه الحلول يكمن في سبب طريف، وهو أن الخبراء المعنيين بما وراء الكواليس لا يستحضرون من ذاكرتهم تجارب الحياة المعاصرة، وإنما يستحضرون ما درسوه من كتب تناولت حلولا قديمة لمشكلات أقدم.
وذلك لأنهم -لأسباب متعددة- لم يطوروا معرفتهم المنهجية بالمشكلات الحديثة نسبيا، ولا بحلولها غير التقليدية التي لم تكن معروفة في الوقت الذي كتبت فيه المراجع التي يعتمدون عليها في التشخيص والفهم ورسم خطط العلاج.
والحق أن المشكلات الراهنة لا تتطلب -في المقام الأول- تغيير السياسات ولا حتى السياسيين، وإنما تتطلب أساسا تغيير الخبراء، وتطوير طريقة الاستماع إليهم وإلى نصائحهم.