وتشكل الانتخابات البلدية آخر المستويات في السلم الانتخابي بعد المستويين الرئاسي والتشريعي، ولا تتأتى خطورة الموعد من المسار الانتقالي نفسه ولا من العودة المظفرة لرجال الدولة العميقة إلى المشهد اليوم، ولكنها تتأتى أساسا من القيمة الحقيقية للانتخابات القاعدية، باعتبارها أدوات الحكم المحلي المباشرة وتواجه أدوات الدولة العميقة في قاعدة البناء الاجتماعي.
تجربة الانتخابات البلدية
البلدية هي المجال الأصغر لممارسة الحكم والسلطة؛ فالتجربة الانتخابية البلدية أقرب التجارب الانتخابية صلة بالمواطن، لأنها تتعلق بالوجه المباشر لحياته اليومية وبتطبيق القانون، وبالسيطرة على الثروات وتوزيعها، وبتطبيق العدالة ومنظومة الخدمات على المستوى الأصغر للدولة.
إن معركة الحكم المحلي هي امتلاك القدرة على تسيير الجزء الأصغر من الدولة والمجتمع، أي تثبيت قدرة الدولة على تطبيق سياستها في أصغر مكونات المجتمع. ولذا فإن الدولة الجديدة ستواجه مكونات النظام القديم على أرضها، أو ما يسمى الفساد الأصغر الذي هو أخطر أنواع الفساد، وأشدها فتكا بالخلايا الصغرى المكونة للمجتمع والدولة.
إن بناء الدولة وتحريرها لا يتم إلا عبر تحرير الأجزاء التي هي القطع المكونة للمجموع، والتي تمثل مواجهة مع المشاكل الحقيقية التي تواجه المواطن يوميا، بعيدا عن الشعارات الجوفاء وبعيدا عن الإيهام بالتنمية والتطوير.
لكن هذه التجربة تواجه تحديات كبيرة، يتمثل أولها وأخطرها في منع إجراء الانتخابات نفسها، وهو ما قد يهدد تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، أو يؤدي لإجرائها في إطار تقاسم للنفوذ بين قطبَي الائتلاف الحاكم، بشكل يعيد تشكيل المنظومة القديمة بطلاء ثوري.
هناك معطيات كثيرة تفسر هذه التهديدات لعل أولها هو تمكّن قوى الثورة المضادة من تنظيم صفوفها بعد أن استطاعت امتصاص الموجة الثورية الأولى، ونجحت في التشويش على القوى الثورية مستفيدة من عوامل كثيرة داخليا وخارجيا محليا ودوليا.
تربص الدولة العميقة
قوى الدولة العميقة التي نجحت -عبر عقود- في تأسيس سلطتها ونفوذها وثروتها على طول هرم السلطة، بدءًا برئاسة الدولة ووصولا إلى البلديات والأحياء والقرى الفقيرة لا تزال تقاوم بشراسة بحثا عن إلغاء المنجز الثوري وطي صفحة التجربة الثورية، جريا على منوال دول عربية كثيرة أهمها المنوال المصري.
كانت البلديات ولا تزال وكر الفساد الحقيقي في تونس؛ حيث كانت معايير التوظيف فيها تخضع أساسا للولاء للحزب الحاكم، والقدرة على خدمة منظومة الفساد وتكوين الشبكات التحتية لنظام القمع المحلي. وليس خراب البنية التحية ودمار المرافق الحيوية، وانهيار كل البنى وأنظمة الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية في تونس إلا بسبب الفساد الكبير الذي عشّش داخل البلديات.
لقد اندلعت الثورة التونسية في العمق التونسي العميق، وانطلقت من أمام مقرات الحكم المحلي ممثلة في البلديات والمحافظات الداخلية، لكي تؤكد طبيعة الحركة الثورية واتجاهها باعتبارها حركة عمودية، تنطلق من الأسفل إلى الأعلى حتى أطاحت برأس الهرم.
البلديات إذن هي آخر معاقل الدولة العميقة وأكثرها حصانة بحكم عمقها، وبحكم بُعدها عن الممارسة المباشرة للسلطة في صيغتها الكلية الشمولية.
أخبار كثيرة من داخل تونس وخارجها تتحدث عن مشاريع انقلابية على التجربة الوليدة، سواء بأدوات داخلية أو بأدوات دولية أو بكلا النوعين.
خطورة المنوال التونسي ليست في نفسه بل في غيره، أي في قدرته على أن يغري غيره -مثلما أغراهم ثوريا- بالنسج على منواله، وهو ما يهدد أطماع الكثيرين ويهدد نفوذهم وعروشهم.
لكن الأخطر ليس الإطاحة بالتجربة التونسية فهذه أسهل المهمات، خاصة بعد أن أثبتت التحقيقات -في الداخل والخارج- حجم الاختراق الذي تعاني منه الدولة بسبب شبكات التجسس والتخريب، وتعاني منه القوى الداخلية التي أثبت الكثير منها -عبر منصات إعلام الدولة العميقة- أنه مستعد لبيع البلاد، وتدمير التجربة الوليدة من أجل الوصول إلى السلطة.
بل الخطر الكبير يكمن في إدارة ما بعد الانقلاب، فهل سيسمح العرّاب الدولي بدفن آخر التجارب الثورية العربية؟ وهل تستطيع قوى الدولة العميقة الوقوف أمام ملايين العاطلين والفقراء وجحافل المسحوقين الذين ليس لديهم ما يخسرونه؟ وهل يستطيع الانقلابيون تحمل تبعات حمام دم تونسي جديد؟ وهل ستسمح أوروبا بالعبث في حديقتها الخلفية بشكل يهدد أمنها واستقرارها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تجعل مجرد التفكير في تدمير الثورة التونسية انقلابيا لعبا بالنار، لا بسبب التجربة في حدّ ذاتها بل بما يمكن أن تنتجه المغامرة من عواقب وخيمة على الدولة العميقة وأعوانها.
وإذا كان من الصعب التنبؤ بمصير التجربة بسبب كثرة العوامل والمؤثرات، فإن الثابت الأكيد هو أنّ استعادة المنوال الاستبدادي -كما كان في عهد الرئيس الهارب بن علي- تعتبر ضربا من المحال. ولا يبقى إذن للدولة العميقة إلا السعي لاكتساح أكبر مساحة ممكنة من نطاق السلطة والمجتمع، في مواجهة موجات الوعي الثوري التي لا تزال تعمل على منع الدولة العميقة من تحقيق ذلك.
إن هذا الصراع بين شراسة القديم الساعي للعودة وتشبث الجديد في سبيل تأصيل مبادئ ثورته؛ هو الذي سيحدد وحده مستقبل أهم نماذج ربيع الشعوب التي تكاد تحقق الشعارات التي انطلقت لأجلها.