لكن ورغم هذا الجانب البائس الذي يظهره هؤلاء على العالم الافتراضي، وإذا كنت تعرف واحدا منهم معرفة حقيقية، ستجده ربما يحيا حياة عادية، يبتسم أحيانا، ويضحك أحيانا، يقاوم حينا ويستسلم نهاية النهار، يعاني في الليل لكنه يركب شاحنة الحياة في الصباح الباكر، يأخذ لنفسه صورا ويستمتع بهواية أو أكلة شهية. فهل يكذب علينا هؤلاء؟ هل يظهرون التعاسة خوفا من الحسد مثلا؟ أم أن الاكتئاب والبؤس أصبحا موضة وسلعة رائجة للادعاء.
يبدو الحكم على هؤلاء البائسين واتهامهم بالكذب والادعاء تسرعا وظلما كبيرا، فبينما كان يقوم مفهوم الصداقة سابقا -وقبل ظهور العوالم الافتراضية- على تصادق شخصين، أي يعلم كل شخص بأغلب أحوال صديقه ويصدق الأخر أمام الأول بكل ما يدور في قلبه، أضحى مفهوم الصداقة الحديث -وبعد ظهور الصداقة الافتراضية- يقوم على المتابعة فقط وتبادل الآراء الجافة والإعجاب والتعليقات، فتم تفريغ مفهوم الصداقة من معناه الأصلي الحقيقي وصار صورة مشوهة من شيء كان وجوده يشكل فارقا كبيرا عند البشر.
وعلاوة على ذلك، دمرت وسائل التواصل مشاعر الإنسان الحقيقية، فالشخص الذي يتابع الأخبار وما يكتبه أصدقاؤه الافتراضيون يوميا وينفعل معه، يستهلك كما هائلا من طاقته الشعورية يوميا بين الفرح والحزن والضحك والألم والفزع والخوف، وكل ذلك في دقائق معدودة، وبشكل مجهد شديد التقلب، فيفقد الإنسان فاعليته الشعورية وتصبح مشاعره باردة، تتحرك الأحداث وصور الدماء والمذابح مختلطة بتهاني الأفراح، والأدعية، وكل ذلك يتحرك أمامه صعودا وهبوطا، فيما أصبح ذلك شيئا عاديا قلما يتأثر به.
من هنا وفي ظل هذا الازدحام الشديد لعرض حالات الناس ، صار الإنسان يواكب الأحداث، فيكتب حالته الشعورية بما يتواكب مع الشعور السائد من متابعة خط الأحداث في صفحته، ولأن هناك فئة كبيرة فعلا من الناس حولنا مصابون بالاكتئاب، فهذا الجو الافتراضي العام يساعدهم على تقمص دور البؤس وإخراج أسوأ ما لديهم من مشاعر في تلك المساحات الافتراضية الضيقة، ولأن هذا المساحات لا تستطيع أن تعبر عن الشخص بالكامل، ولا يمكنها إظهار الإنسان بحالته المركبة وشكله الحقيقي، فيظن المتابعون الافتراضيون أن الأمر كله ادعاء أو مواكبة للموضة وطلبا للشهرة.
يظن الأصدقاء الافتراضيون ذلك لأنهم يرون الشخص نفسه على موقع تواصل آخر بحالة مختلفة تماما، فالناس يهاجرون من موقع افتراضي لآخر وينتقلون من منصة اجتماعية لأخرى ويغيرون حالتهم النفسية بمنتهى السلاسة وهكذا تتعدد أوجه الإنسان، ورغم كل تلك المنصات المختلفة، ما زلت لا تستطيع التعبير الكامل عن الإنسان بصورته الحقيقية. فتبينوا قبل أن تظلموا شخصا أو تجرحوه وتتهموه بالادعاء، وقد يكون على حافة الانهيار ولا ينقصه إلا دفعتك التي نفذتها بمنتهى الأنانية والجهل.