تعليم العربية بين الشهادات والمَلَكات

الدكتور خالد أبو عمشة

باحث وخبير لغوي/معهد قاصد بالأردن

ثمة صراع خفي في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها، فهناك اتجاه يتبنى أن هذا المجال لحملة الشهادات فيه وخاصة التربوية منها أي الصادرة عن كليات التربية لا أقسام اللغة العربية من جهة، واتجاه آخر يتبنى أن التخصص فيه لحملة الشهادات في اللغة العربية، ولا يرى لمن لم يدرس في كلية اللغة العربية حقا فيه، واتجاه ثالث يرى أن التخصص في المجال إنما هو بالملكة العلمية والبحثية والتدريسية فيه، دون أنواع الشهادات، فالمجال لأصحاب الملكة والمراس بصرف النظر عمن يحمل شهادة متخصصة فيه أم لا. 

وبناء على تجربة تزيد على أكثر من عشرين سنة تدريساً وتدريباً وإدارة برامج ارتأيت أن أقدّم نظرتي نحو هذا الموضوع، وأعلم يقيناً أن بعضهم سيشعر بالرضا والسعادة وآخرون سوف يشعرون بالغضب والحنق تجاه ما سأقوله ولكنها كلمة حق.

وأبدأ بالقول إنني أنتمي إلى الجانبين، إذ إنني من حملة الشهادات في المجال بشكل عام: اللغوية من جهة والتربوية من جهة أخرى، ومن أصحاب الملكة والخبرة التي امتدت أكثر من عقدين من الزمان وأسفرت عن عشرات الكتب والأبحاث والدورات وإدارة البرامج وعقد المؤتمرات وحضورها، وخلفيتي الأكاديمية -لمن لا يعرفها- على النحو الآتي: أحمل درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، والماجستير في اللسانيات التطبيقية (تعليم العربية للناطقين بغيرها) من قسم اللغة العربية، والدكتوراه الأولى في مناهج اللغة العربية وطرائق تدريسها للناطقين بغيرها من كلية التربية، والدكتوراه الثانية في اللسانيات النظرية والتطبيقية في مجال نظريات اكتساب اللغة الثانية، من كلية الآداب، قسم اللغة العربية. وفي الوقت ذاته عملت في المجال كما ذكرت آنفاً مدرساً ومؤلفاً ومدرباً ومديراً على الآلاف من الأساتذة والطلبة على حد سواء فلست بالتالي متحيزاً لأحدهما دون الآخر.

وينبغي أن أقرر بادئ ذي بدء أن الحصول على الشهادات في التخصصات المختلفة يعد الشيء الطبيعي والمفروض، وهؤلاء هم الذي أحدثوا نقلة نوعية في المجال على مدار عقدين ونيف من الزمان، ونظَّروا وكتبوا وألفوا ودربوا واجتهدوا وأسهموا وضحوا بالغالي والنفيس، ولكنها وحدها ليست ميزة ولا إضافة نوعية في مجالنا لكي تبرز ويعلو نجمك في المجال دون ملكة ورسوخ في النظرية والتطبيق، وامتلاك سنوات من الخبرة وحده لا يفتح لك الأبواب لكي تكون زعيماً أو علماً من أعلامه، ولو نظرنا في الدراسات الإحصائية الحديثة في نسبة الأشخاص الذي يعملون في تخصصاتهم فإن عددهم لا يزيد على خمسين بالمئة، وكثير من هؤلاء مبدعون بل يتربعون على أعلى المناصب والوظائف، وفي الوقت ذاته كم من حامل لشهادات كثيرة ومتعددة وهو لا يفقه فيها شيئاً، وكم ممن قضى سنوات متطاولات مدرسا وخرج من ذلك بمجرد تكرار السنوات دون الملكة فيه. ورحم الله ابن خلدون الذي فرّق بين أهل الملكة والصناعة. والملكة عنده هي مهارة تكتسب عن طريق التعلم، وتَحْدُث هذه الملكة عن طريق التكرار والممارسة، قال ابن خلدون يشرح معنى الملكة: «والملكات لا  تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة». وبهذا يحسم ابن خلدون الأمر بأن الأمر لا يعود لمن يحمل شهادة أو لمن دخل المجال دونها، إنما بملكته ورؤيته في التعامل معه وفيه. خاصة أن هذا العلم يعد من العلوم البينية، فالكل يصارع لكي يضمه إلى حلفه، فأهل كليات التربية تزعم أنه تربوي صرف، وأهل أقسام اللغة العربية يزعمون أنه علم لغوي صرف، والأمر عندي أنه علم بَيْنِيّ ينتمي إلى علوم كثيرة: التربية واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان وغيرها من العلوم الأخرى، ومما يؤكد نظرتي هذه وجود أقسام اللغة العربية للناطقين بغيرها في كثير من الجامعات العربية والإسلامية والأجنبية بين كليات التربية وأقسام اللغة العربية ومراكز اللغات، "وكلّ يدّعي وصلا بليلى"، وبالتالي فليس الأمر بأن تكون حاملاً لشهادة في علوم التربية أو اللغة أو كليهما أو دونها جميعاً، إنما المسألة أن تمتلك رؤية ومهارة ودربة ودراية فيما تفعله على المستويين النظري والعملي. وأخص بالذكر هنا مَن لا يحمل شهادة في المجال على الرغم من حمله شهادات توازيها في المستوى العلمي، ومن منا يجاري الرافعي في لغته وعلمه؟ ألا تعلمون أنه لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية؟ هل يليق بنا أن نشكك فيه وفي مكانته؟

ومن الأعلام الكبار الذين لهم بصمات واضحة وإسهامات عظيمة في مجالنا بل إنهم من أبرز رواده بلا منازع وقادته بلا خلاف أستاذنا ومدربنا الأستاذ الدكتور مهدي العش عرّاب مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها، وخلفيته العلمية ليست تربوية بل ليس من المتخصصين في اللغة العربية، وهو بلا منازع علم الأعلام في المجال بشرق العالم وغربه.
وعلى الطرف المقابل نجد مجدد القرن في تعليم العربية للناطقين بغيرها الأستاذ الدكتور محمود البطل وهو من المختصين في المجال في درجاته العلمية الثلاث فضلا عن تجاربه العملية في التدريس والتأليف والتدريب.
فهل هناك من يجرؤ على التشكيك في هذين العلمين الكبيرين وأحدهما من أهل الملكة والصناعة والآخر من أصحاب التخصص.

ومَن منكم لم يسمع ببعض الجامعات التي تُخرج حملة الماجستير في تعليم العربية للناطقين بغيرها وكثير منهم برآء من التخصص ومهنيته؟!
بل إن إعداد الأطروحات والرسائل الجامعية أصبح مهنة لكثير من المكاتب الجامعية، وهي متناثرة في كل البلاد وأضحت تغزو وسائل التواصل الاجتماعي، وكتب حول هذه الظاهرة غير واحد من الزملاء، فأي حامل للشهادة هذا الذي اشتراها بماله دون أن يقرأ ويكد ويتعب في البحث والدراسة، واسمه في النهاية متخصص، وحامل شهادة؟!

وأطرح على مدربي العربية المخلصين السؤال الآتي: كم من طالب لديك من هؤلاء ومن غيرهم من حضروا درواتكم وقالوا لكم لقد استفدنا من دورتكم في أسبوع ما لم نستفده من سنتين في دراسة التخصص وهم من حملة الشهادات؟
وفي المقابل هناك من تخرج من أقسام أخرى وقد شقوا طريقهم مباشرة بكل ثقة واعتداد؛ لأنهم تخصصوا وأتقنوا ما تخصصوا فيه، فكم من مهندس وطبيب ومتخصص في اللغات والتاريخ والجغرافيا والعلوم الشرعية وغيرها ممن دخلوا هذا المجال وهم لا ينتمون إليه تخصصاً لكنهم امتلكوا أدواته وظفروا بالملكة فيه، وقد بزوا ونافسوا المتخصصين وحملة الشهادات تدريساً وتدريباً وتأليفاً وتنظيراً بل إنهم يحملون أرفع الشهادات شهادات التميز اللغوي والتواصل الإنساني، وشهادات الطلبة ومديري البرامج اللغوية.

ولعل قول بعض الشعراء يلخص هذا الصراع الذي اهتم بالشكليات ونأى بنفسه عن الفحوى والمضمون:

فلا تجعل الحُسنَ الدليلَ على الفتى * فما كلُّ مصقول الحديد يَمانِ

فليس كل حامل شهادة تربية هو المتخصص الوحيد في المجال، والمتمرس فيه، وليس حامل الشهادة اللغوي بحاجة إلى الجانب التربوي النظري أي الشهادة لكي يكون ابناً شرعياً له، وليس أصحاب المكلة ممن ولجوا المجال ونجحوا فيه دخلاء عليه. 

فليتنا ننظر إلى اللّباب بإدارك وبصيرة وحكمة وذكاء وعقل وفؤاد وفطنة وكياسة بعيداً عن الجهل والتطرف والغرور.

وأختم بقولي بارك الله في كل عامل في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها سواء أكان ممن يحمل شهادة تربوية فيه أو يحمل شهادة لغوية فيه، أو دخله وهو مسلح بالملكة التي تعينه على النجاح فيه. وليكن شعارنا جميعاً "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" بعيداً عن الشهادة والجنسية والبلد والمجال وسنوات الخبرة وعدد المؤلفات والأبحاث والمؤتمرات، ولنكن متيقنين من أن الناس لديهم البصر والبصيرة لكي يحكموا علينا بما قمنا به وأنجزناه وعملناه وليس بما ننسجه لأنفسنا من هالات علمية كأنها بيوت من زجاج.

 مدونات سابقة للكاتب