في إحدى دول جنوب شرق آسيا 2009
قالت لي معلمة للغة العربية: نريد أن تأتينا في المدرسة لتقدم محاضرة بهدف زيادة دافعية الطلاب لتعلم العربية.
قلت لها: ممتاز.. هل هؤلاء الطلاب يحبون العربية؟
قالت: لا، طبعًا الطلاب يكرهون اللغة العربية.
قلت: لمَ يدرسونها إذن؟ بحسب معلوماتي أن العربية اختيارية في قوانين بلدكم.
قالت: نعم هي اختيارية، لكننا أجبرناهم على دراستها في مدرستنا.
قلت: كيف تُدَرِّسُون العربية؟
قالت: نعطي الطلاب الكتب ليذاكروها في البيت.
قلت: ما طريقة التدريس؟
قالت: لدينا نظام جودة صارم، فالمعلمون في أغلب الأوقات مشغولون بملء استمارات متابعة العمل أو في اجتماعات أو في دورات تدريبية ونعتذر عن أغلب الدروس، فالطلاب يعتمدون على أنفسهم!!
قلت (وأنا أشعر بأني في فيلم من نوعية الكوميديا المبكية): هل الكتب مدعومة بوسائط متعددة كالأسطوانات، بحيث تعين الطالب على الدراسة في البيت؟
قالت: لا.
قلت وقد فاض بي الكيل: لقد أخطأتِ العنوان يا سيدتي.. حضرتك تحتاجين ساحرا ليدفع هؤلاء الطلاب لتعلم العربية وليس باحثا مثلي.. سامحيني لا أستطيع أن أؤدي هذه المهمة.
في إحدى دول غرب أوربا 2013
منذ أن وصلت إلى تلك الدولة وأنا أسمع حديثا من كثيرين حول نشاط الجالية المسلمة ومدارس العطلات الأسبوعية التي تجاوز عددها المئات، والتي تدرس العربية والدين لأبناء المسلمين.
وبينما أنا واقف في جناح مؤسستي اقترب مني رجل أربعيني وقال دون سلام أو تحية: ما هذه العربية التي يتعلمها أولادي منذ أربع سنوات ولا يستطيعون كتابة صفحة أو الحديث بالفصحى دقائق معدودة.. أهي طلاسم؟!
ضحكت وقلت: والله لست معلم أولادك.. أين وكيف يتعلمون؟
قال: في مدرسة إسلامية تنعقد أسبوعيا، وأولادي يحافظون على الحضور منذ سنوات ولكنهم لا يتعلمون!!
قلت: هل تدرَّب هذا المعلم أو المعلمة على تعليم العربية؟
قال: لا أظن، معلمتهم ربة بيت.. وليس لديها درجة علمية في العربية أصلا.. لكنها عربية، وجزاها الله خيرا هي متطوعة في هذه المدرسة مثل غيرها من المعلمين والمعلمات.
في إحدى دول غرب آسيا 2019
في مناقشة مع إحدى طالبتي الباحثات –وهي غير عربية- لتحديد موضوع أطروحة الماجستير:
قلت: ما رأيك في موضوع حول اتجاهات طلاب المدارس الدينية نحو اللغة العربية.
قالت: الطلاب يكرهون اللغة العربية.. فماذا سنكتب؟
قلت: هل تعين ما تقولين؟ هل تقصدين (يكرهون) أم (لا يحبون)؟
قالت: أستاذي.. أنا أعي ما أقول (الطلاب يكرهون العربية)؛ لأن أغلب المدرسين يقضون أعواما في تصريف الأفعال والأسماء، والكتب لا تقدم لهم أيّ مادة تستشرف المستقبل أو لها فائدة في حياتهم.. غير أن المعلمين قالوا لهم إنها لغة أهل الجنة!
قلت: إذن لا فائدة لها قبل الموت.. وأين المعلمون العرب؟
قالت: أغلبهم لا يعرف الفرق بين تدريس العربية للعرب وتدريسها لغير العرب.
وبعد ذلك بيوم كان لي لقاء مع باحثة أخرى من البلد نفسه فقالت الكلام عينه، رغم أن الباحثتين لا علاقة بينهما وتعملان في مدرستين مختلفتين.
عربية للترويج!
ما لمسته خلال فترة قاربت ربع قرن في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها، أن بعض الدول تستخدم العربية للترويج لسياساتها على أنها بلد متديّن ويهتم بتعليم العربية بل يفرضها على طلابه، وفي الوقت نفسه ترسل رسالة إلى المستثمرين والسائحين العرب أننا نعلم طلابنا العربية، فتعالوا تجدوا ما يسركم، لكن الواقع على الأرض يختلف كثيرا، كما لاحظت أن كثيرا من الدول الإسلامية تستخدم العربية للدعاية لنفسها دون أيّ عمل جاد لتعليمها بشكل يحقق كفاءة لغوية لأبنائها.. بل إن هذا التجارب السلبية تخلق روحا عدائية نحو العربية.
ويمكن أن نحسن الظن ونقول إن تلك الدول لا تعرف كيف تعلم العربية أو لا تعرف السبيل لتعليمها بطريقة جادة، على الرغم من أن بعضها يحقق نجاحا هائلا في تعليم الإنجليزية حتى كادت تصبح اللغة الأولى لشعبها.. وتعليم العربية لغة أجنبية من المفترض ألا يختلف كثيراعن تعليم أي لغة أجنبية أخرى.
خطوات للنجاح في تعليم العربية
وليسمح لي القارئ أن أقترح خطوات مهمة لأي دولة تريد أن تعلم العربية لأبنائها بشكل جاد، مع العلم بأن أغلبها يبدو بديهيا.
على مستوى برنامج اللغة العربية العام :
1. ألا تتأخر بداية البرنامج عن الصف الخامس من التعليم الأساسي (في عمر 11 عاما تقريبا) وذلك لندرك جهاز نطق الطفل قبل أن يستقر ويجد صعوبة في نطق الحروف العربية.
2. أن يكون البرنامج متكاملا فيغطي مهارات اللغة وكفاياتها.
3. أن يكون البرنامج تراكميا، أي أن نبني كل عام على ما تعلمه الطالب في الأعوام السابقة.
4. أن يكون البرنامج مستمرا، فلا يدرس الطالب في سنوات ويتوقف ثم يبدأ، بشكل يجعل الطالب ينسى ما تعلمه.
5. أن يكون للبرنامج مرجع، فهناك العديد من الأطر المرجعية العالمية وقد يكون للدولة نفسها إطارها الخاص لتعليم اللغات الأجنبية ولابد أن يكون البرنامج مصمّما في ضوء إطار منها.
6. أن يرتبط البرنامج بالحياة، فالعربية لغة عقيدة ولغة تواصل، والطالب يمكن أن يدرسها للتواصل مع المواد التراثية الإسلامية، وفي الوقت نفسه علينا أن ندربه على التواصل بها مع البشر.
على مستوى المادة التعليمية:
1. أن تكون في شكل متدرج مترابط: بحيث تسلّم أهداف العام الحالي إلى العام التالي، ويُبنى العام الحالي على العام الماضي.
2. المعاصرة: أي أن ترتبط بالحياة المعاصرة، وليس بالتراث فقط.
3. التنوع في الوسائل: كتاب، موقع إنترنت، تطبيق على الأجهزة اللوحية أو الهواتف، وما يستجد من وسائل.
4. الجاذبية: فنحن في عصر الصورة، فلابد أن تكون المادة على درجة كبيرة من الإبداع الفني.
5. المتعة: فتبنى المادة في ضوء اهتمامات الطلاب وما يحبونه.
6. الذاتية: أن تسمح للطالب أن يعتمد على نفسه في التعلم.
7. القابلية للتعلم: أن تكون المواد التعليمية مبسّطة ومتدرجة وأن يكون المقرر مناسبا لعدد الساعات المخصّصة له.
على مستوى المعلم:
1. أن يكون المعلم حاصلا على درجة علمية في اللغة العربية وليس العلوم الإسلامية فقط.
2. أن يجتاز المعلم اختبارا في الكفاءة اللغوية العربية بمستوى لا يقل عن متقدم أدنى حسب الإطار الأوربي أو أي إطار معادل.
3. أن يكون المعلم مدرّبا على تعليم العربية للناطقين بغيرها.
4. أن يخضع المعلم للتدريب الميداني قبل أن يتحمل مسؤولية تعليم الطلاب.
5. أن يكون هناك تدريب مستمر للمعلم.
6. الاستعانة بمعلمين عرب مؤهلين ومحترفين خاصة لتدريس المحادثة.
على مستوى العملية التعليمية:
1. ألا يقل عدد الساعات الدراسية السنوية عن 100 ساعة حتى يستطيع الطالب تحقيق خطوة كل عام.
2. ألا تكون دروس العربية في آخر اليوم دائما، فيشعر الطلاب بأنها عبء يحول بينهم وبين العودة إلى بيوتهم.
3. أن تنظم أنشطة تفاعلية بين الصفوف المختلفة لممارسة العربية.
4. أن تنظم أنشطة بين الطلاب والجاليات العربية في تلك البلاد.
5. أن يشجع الطلاب على العمل التطوعي للتفاعل مع العرب في المطارات والمستشفيات والأماكن السياحية والحكومية.
6. تنظيم المسابقات بين المدارس وتقديم الجوائز القيمة للمتميزين.
على مستوى التقويم:
1. أن تعد نظم التقويم بإشراف متخصّصين.
2. أن يكون انتقال الطلاب بين المستويات بناء على تقييم علمي حقيقي وليس بطريقة آلية.
3. ألا تتدخل الإدارة في رفع نتائج الطلاب؛ لأن هذا الأسلوب يجعل الطلاب لايهتمون بالمذاكرة اعتمادا على أن نجاحهم يتم عبر وساطة الإدارة وليس بناء على مجهودهم.
4. أن يدرس أداء الطلاب في عملية التقييم ويخرج الخبراء بتوصيات لتحسين أداء الطلاب.
على مستوى الدول العربية :
1. تقديم منح للطلاب المتفوقين لقضاء بعض الوقت في الدول العربية في برامج انغماسية احترافية.
2. تقديم منح للمعلمين غير العرب لتأهيلهم في البلاد العربية لتدريب زملائهم.
3. إيفاد معلمين أكفاء للعمل في البلاد غير العربية على حساب دولهم.
4. رعاية المسابقات اللغوية في البلاد غير العربية.
قد يقول قائل إن بعض تلك الخطوات مطبق بالفعل، لكن التعليم منظومة لا يمكن أن تشغل قسما منها وتعطل آخر، فتخيل أن مؤسسة تعليمية وضعت خطة شاملة ومواد تعليمية رائعة، لكنها لم تحسن اختيار المعلمين، أو أحسنت اختيارهم ولم توفر أيّ أدوات في الصفوف، أو أحسنت كل ما سبق ولم تطبق نظام تقويم علميا.. ماذا سيحدث؟
أدعو زملائي الباحثين لدراسة المقترحات السابقة والإضافة إليها للخروج عما قريب بقائمة معايير مقننة ندعو الدول إلى تبنيها عند تدريس العربية على أمل أن ننتقل بعملية تعليم العربية من مرحلة الدعاية إلى التعليم الجاد.