كانت العربية في العصر الجاهلي نقِيّةً صافيَة بفضل الطبيعة الجغرافية لأرض العرب، فالبحر يحيط بجزيرتهم من ثلاث جهات، فيحجزهم عن الأمم المجاورة، وتحدّ حياتُهم القبليَّةُ وطبائعُهم الاجتماعيةُ من انسِياحهم في الأرض باتِّجاه الشَّمال.
وظلت العربية شطرا من صدر الإسلام نقيّةً من الشوائب تنساب على ألسنة أبنائها بيُسْر وسهولة في أصواتها وأبْنِيتها وتراكيبها دون حاجة إلى تأمُّل أو إعمال فكر، وهم يفهمون دَلالتها بالفِطْرة التي وَرِثوها عن آبائهم وأجدادهم، ولم تكن ثَمّةَ حاجةٌ لما يَعْضُد السَّليقَة وُيقوِّيها من ضوابط اللغة وقوانين الإعراب، فقد كانت السَّليقة اللُّغويَّة هي الـمُهَيْمِنة، وهي الحامية من الخطأ.
ثم جدَّتْ أمور وتبدّلت أحوال، فتكدَّر صفو اللُّغة، وضعُفت السَّلائق واضطربت الأَلْسُن، فنشأت الحاجة إلى استخراج القواعد ووضع الضوابط التي تَعْصِم من الزلل وتَقُوم مَقامَ السليقة.
يقول أبو بكر الزُّبيديّ، في طبقات النحويين واللغويين: (ولم تزل العرب تنطِق على سجيّتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتَّى أظهر الله الإسلام، فدخل النَّاس فيه أفواجا، وأقبلوا إليه أرسالا، واجتمعت فيه الألْسِنة المتفرِّقة، والُّلغات المختلِفة، ففشا الفساد في اللُّغة العربيَّة).
وكان ظهور ذلك على وجه التحديد أيام الخلافة الرَّاشدة في المدينة المنورة، ثم تفاقم الأمر وازدادت الحاجة -فيما بعد- فتهيأت العوامل لنشأة الدَّرس اللُّغَوي ابتداء في المدينة، بسبب ظهور اللحن، وتهديده لغةَ الدين الإِسلامي، وزحفه إلى نص القرآن الكريم.
المصدر:
أصول علم العربية في المدينة للأستاذ الدكتور عبد الرزاق الصاعدي.
نسخة المكتبة الشاملة (بتصرف).