وسبُبُ دعائي بهذا لك: إنكارُك على أبي الحسن محمد بنِ عليّ العِجْلي تأليفَه كتابا في الحماسة، وإعظامُك ذلك!
ولعله لو فعل -حتى يُصِيبَ الغرضَ الذي يريده، ويَرِدَ المنهلَ الذي يؤُمُّه- لاستدرك من جيّد الشعر ونقيّه، ومختارِه ورضيّه كثيرا مما فات المؤلفَ الأولَ (يعني أبا تمام).
فلماذا الإنكارُ، ولِمَ الاعتراضُ، ومن ذا حظر على المتأخِّر مُضادّة المتقدم؟ ولِمَ تأخذُ بقول من قال: "ما ترك الأول للآخر شيئًا"، وتدعُ قول الآخر: "كم ترك الأول للآخر"؟
وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمن منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأوهام ونتائج العقول؟
ومن قَصَر الآدابَ على زمان معلوم، ووقَفَها على وقت محدود؟ ولِمَ لا ينظُرُ الآخَرُ مثل ما نظر الأول؛ حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمعَ مثل جمعه، ويرى في كلّ ذَلِكَ مثلَ رأيه؟ وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوازل الأحكام نازلةٌ لمْ تخطرْ على بال من كان قبلهم؟ أوَما علمتَ أن لكل قلب خاطرا ولكل خاطر نتيجةً؟
ولِمَ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثلُ شعره وَلَمْ يَجُزْ أن يُؤَلَّف مثلُ تأليفه؟ ولم حجّرتَ واسعا وحظَرتَ مباحا، وحرَّمتَ حلالا، وسددت طريقا مسلوكا؟ وهل حبيب (أبو تمام) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟
ولماذا جاز أن يُعارَض الفقهاءُ في مؤلفاتِهم، وأهلُ النحو في مصنّفاتِهم، والنُّظّارُ في موضوعاتهم، وأربابُ الصناعاتِ في جميع صناعاتهم، ولم يجُزْ معارضةُ أبي تمام؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلّت أفهام ثاقبة، ولكلّت أَلسُنٌ لَسِنَةٌ، ولما تَوشَّى أحد بالخَطابَة، ولا سلك شِعْبا من شِعاب البلاغة، ولمجَّت الأسماع كل مردَّد مكرَّر، وللفَظَت القلوبُ كلَّ مُرجَّع مُمَضّغ.
ولِمَ أنكرتَ على العِجْليِّ معروفا، واعترفتَ لحمزةَ بنِ الحسين ما أنكره على أبي تمام، في زعمه أن في كتابه تكريرا وتصحيفا، وإيطاءً وإقواء، ونقلا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها، ولا تَصلُح لها، إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة وأمور عليلة؟
ولِمَ رَضِيتَ لنا بغير الرِّضَى؟ وهلَّا حثَثْتَ على إثارة ما غيَّبتْه الدهورُ، وتجديدِ ما أَخْلقتْه الأيامُ، وتدوينِ ما نُتِجَتْه خواطرُ هذا الدهر وأفكارُ هذا العصر؟
على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأتَ ما لم يَنحطَّ عن درجة مَن قبْله؛ من جِدٍّ يَرُوعُك، وهزْل يَروقُك، واستنباطٍ يُعْجِبُك، ومُزاحٍ يُلْهِيك.
المصدر
رسالة لأبي الحسين أحمد بن فارس (صاحب مقاييس اللغة) نقلها الثعالبي في يتيمة الدهر.
(3/ 63 - 65 بتصرف يسير).