انطلق ابن بطوطة وهو شاب متوقّد الذكاء من مدينة طنجة مكان مولده ومنبته لأداء الحج وطلب العلم، وبدأ رحلة تطواف في العالم استغرقت نحو ثلاثة عقود، كان له فيها صولات وجولات ومغامرات وعجائب، دوَّنها في مذكرات عنونها بـ"تُحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". وقد اشتهرت هذه المذكرات فيما بعد برحلة ابن بطوطة، وعُدّت أعظم مؤلفات الجغرافيا وأدب الرحلات في التراث العربي الإسلامي.
طاف محمد بن عبد الله الطنجيّ المغربيّ (703 - 779هـ / 1304 - 1377م) المعروف بابن بطوطة قارات العالم القديم؛ فتجوّل في أفريقيا وآسيا، واقترب من أوروبا حين زار الأناضول في ثلاثينيات القرن الرابع عشر الميلادي.
وقد حجَّ واعتمر عدة مرات، وقرَّر أن يغوص في عمق القارة الآسيوية، مُستكشفًا عجائب الهند وغرائب الملايو وإندونيسيا وعبق الصين، ثم عاد إلى الجزيرة العربية من شقّها الجنوبي حيث بلاد عُمان. وقد دوّن لنا ملاحظات هامّة عن هذا الإقليم الإستراتيجي في تجارة وبحرية العرب والمسلمين آنذاك.
من أفريقيا إلى ظفار
زار ابن بطوطة اليمن بعد أدائه الحج ومنها اتجه إلى إريتريا والصومال، ثم إلى تنزانيا حيث حطَّت به الرحال في زنجبار وكلوة. ومن هناك عزم ابن بطوطة على زيارة الهند لما سمعه عن عجائبها.
وبعد شهر من التجوُّل في المحيط الهندي وبحر العرب، حطَّ ابن بطوطة رحاله في مدينة ظفار العمانية التي كانت تابعة لليمن من الناحية السياسية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، ولذلك يَعتبر ابن بطوطة ظفار "آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي".
سوق ظفار
من عادة ابن بطوطة في رحلته أن يصف الأسواق وأساليب العيش والعادات والتقاليد. وقد وصف سوق ظفار وذكر أنها كانت خارج أسوار المدينة، وكره ما ينبعث منها من روائح "لكثرة ما يُباع بها من الثمرات والسمك". واستغرب استعمال أهل ظفار السمك علفًا للحيوان حيث قال: "وأكثر سمكها من النوع المعروف بالسردين. ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم، ولم أرَ ذلك في سواها".
أخلاق أهل ظفار
وقد عدَّد ابن بطوطة الكثير من العادات والمآثر التي رآها عند أهل ظفار، فقال: "وهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها. ومن عادتهم أنه إذا وصل مركب من بلاد الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربان... ويُؤتى إليهم بثلاثة أفراس فيركبونها وتُضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان... وتُبعث الضيافة لكل مَن بالمركب ثلاثا، وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان، وهم يفعلون ذلك استجلابًا لأصحاب المراكب. وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء ولباسهم القطن".
رأى ابن بطوطة أيضا مظاهر من المودّة والتواصل لدى أهل ظفار فأشاد بذلك قائلا: "ومِن عوائدهم الحسنة التصافُح في المسجد إثر صلاة الصّبح والعصر، يستند أهل الصف الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم، وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة حيث يتصافحون أجمعين".
ويذكر من عاداتهم الجميلة كذلك الطهارة والنظافة، إذ جعلوا في "كل مسجد مطاهر كثيرة مُعدَّة للاغتسال". لكنه لاحظ أن "الغالب على أهلها رجالًا ونساءً المرضُ المعروف بداء الفيل وهو انتفاخ القدمين". ومن المعروف اليوم أن سبب هذا المرض هو كثرة البعوض.
وقد أعجِب ابن بطوطة أيضا بأخلاق أهل التصوف والدين من رجال ظفار الذين أكرموا مقامه لما توسَّموا فيه من النباهة والعلم، ونحن نعرف أن ابن بطوطة لم يكن فقط سيَّاحا في الأرض، وإنما كان أيضا فقيها وقاضيا، وكانت له محاورات علمية مع رجالات العلم والزهد في كل قرية أو مدينة ينزل بها.
منازل عاد
على مسافة نصف يوم من ظفار زار ابن بطوطة منطقة الأحقاف، وهي منازل عاد قوم هود، وهناك وجد قبرًا كُتب عليه "هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام"، وذكر أنه وجد مثل ذلك في دمشق، لكنه يُرجِّح أن قبر هود الحقيقي في الأحقاف لأن هذه بلاده.
موز ونارجيل وتنبول
أما أشهر أطعمة هذه المدينة وزراعاتها فقد ذكر ابن بطوطة منها الذرة والقمح الذي يسمونه "العلَس"، والأرز المستورد من الهند وهو أكثر طعامهم. كما ذكر مزروعات أخرى لا تزال باقية في ظفار إلى يومنا هذا مثل الموز وجوز الهند (النارجيل) فقال: "ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجُرم (الحجم)، وهو طيِّبُ المطعم شديد الحلاوة، وبها أيضا التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند وبمدينة ظفار هذه لشبهها بالهند وقربها منها".
تلك أبرز مشاهد ابن بطوطة في مدينة ظفار العُمانية، بعضها رآه غريبا ولافتا وربما طريفا، وبعضها -وهو قليل- رآه مستهجنا، وقد أشاد بأخلاق أهل هذه المدينة العُمانية الأصيلة التي كانت من أهم مراكز التجارة على المحيط الهندي وبحر العرب، فضلا عن كونها مركزا للنقل البحري بين شرق أفريقيا والهند وآسيا في تلك القرون، وهي سمة لا تزال تتسم بها عُمان حتى اليوم.