من الآيات القرآنية التي تختفي بين كلماتها التوجيهات التعليمية اللغوية التي يمكن أن نستثمرها في تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى ما جاء في الآية 13 من سورة الحجرات الذي قال فيه تبارك وتعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ".
أشارت هذه الآية إلى أن الله تبارك وتعالى خلق الناس مختلفي الشعوب والقبائل مما يعني أنه خلقهم مختلفي اللغات والألسنة؛ لأن كلا من تلك الشعوب والقبائل يتكلم بلغة خاصّة به. وليس ذلك لكي ينعزل شعب عن غيره ولا قبيلة عن غيرها بل إنه تشجيع إلهي لأبناء الشعوب والقبائل المختلفة على تعلم بعضهم لغة بعض ليتم الاحتكاك والتعارف والتفاهم بينهم.
في إطار هذا المفهوم تتضمن الآية توجيهات تعليمية لغوية يمكن استثمارها في تعليم اللغات الأجنبية وتطبيقها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، منها ما يتعلق بالبعد النفسي والثقافي والاتصالي كما سبقت الإشارة إليه في المقالات السابقة . وإلى جانب هذه الأبعاد هناك بعد آخر لا يقل أهمية بل يلعب دورا رائدا في فتح قنوات الاتصال وأبواب التعارف بين أبناء اللغات المختلفة ألا وهو البعد التداولي.
البعد التداولي في تعليم اللغات الأجنبية يتمثل في أن تعلم لغة وتعليمها لغير الناطقين بها يجب أن يستوعبا منها ما يتداول في بيئتها أو ما يتفق عليه أبناؤها أو ما يشيع استعماله بينهم.
وقد وأشارت الآية الكريمة إشارة ضمنية إلى هذا البعد من خلال حثها أبناء الشعوب والقبائل الذين يتكلم كل منهم بلغة شعبه أو قبيلته، على التعارف والتفاهم؛ فيستحيل على أبناء لغة أن يتفاهموا ويتعارفوا مع غيرهم من أبناء لغة أخرى إلا إذا تعلموا من لغتهم ما شاع استعماله وتداوله بينهم.
ومراعاة البعد التداولى مهمة جدا في تعليم اللغات الأجنبية ويعد إهماله من أكبر ما يعوق التواصل والتفاهم بين متعلميها الأجانب والناطقين بها. وهذا يحدث كثيرا مع متعلمي اللغات الأجنبية عند اتصالهم بأبنائها حيث يجدون أن المفردات التي درسوها والتعبيرات التي تدربوا عليها غير مألوفة عند أبناء تلك اللغات أو الناطقين بها، أو يلاحظون أن تلك المفردات والتعبيرات يستعملها أهل اللغة في سياقات لغوية وثقافية تخالف ما تعلموه وتدربوا عليه.
ونظرًا لأهمية هذا البعد التداولي في بناء الاتفاق اللغوي المشترك بين أهل اللغة ومتعلميها الأجانب الذي هو مفتاح لقنوات التواصل بينهم فمن الضرورة بمكان مراعاته والعناية به في تعليم وتعلم اللغة العربية بوصفها لغة أجنبية. وذلك من خلال عدة إستراتيجيات منها توظيف الخبرات اللغوية المتصفة بالتداولية وتدريب المتعلمين عليها سواء على المستوى اللغوي أم على المستوى الثقافي.
يركز توظيف الخبرات اللغوية والتدريب عليها على المستوى اللغوي، على تزويد المتعلمين بعناصر اللغة العربية من أصواتها وكلماتها وتراكيبها وتدريبهم على استعمالها كما يستعملها الناطقون بها.
ففي تعليم الأصوات العربية مثلا يتمثل مراعاة هذا البعد التداولي في تزويد المتعلمين بقواعد النطق على مستوى الأصوات والكلمات والجمل وتدريبهم على أدائها أداء صحيحًا يراعي مخارج الأصوات وصفاتها، ونبر الكلمات ونغماتها، وتنغيم العبارات والجمل كما ينطق بها العرب عندما يتكلمون بلغتهم.
أما في تعليم الكلمات العربية وتراكيبها فتتمثل مراعاته في تقديم المفردات والتراكيب الشائع استخدامها عند العرب، للمتعلمين وتدريبهم على استعمالها بطريقة يستعملها بها العرب.
وتحقيقا لذلك يمكن للمعلم أن يستعين بالمواد اللغوية والوسائل السمعية أو البصرية أو السمعية البصرية. في تعليم الأصوات مثلا يمكن أن يستعين المعلم بالتسجيلات الصوتية لنطق الأصوات العربية الصعبة ويدرب المتعلمين بها على نطق الأصوات نطقا سليما وفقا لمخارجها وصفاتها، ونطق الكلمات العربية وجملها مع مراعاة دقيقة للنبر والتنغيم والمفصل. أما في تعليم الكلمات العربية فيمكن أن يستفيد المعلم من قوائم المفردات الشائعة ليقدم للمتعلمين المفردات الشائع استخدامها في العالم العربي والتواصل العالمي. وكذلك في تعليم التراكيب يمكن أن يستفيد المعلم من قوائم التراكيب الشائعة التي وضعت على نتائج الدراسات العلمية ليتدرب عليها المتعلمون في التعبير عن أفكارهم مستخدمين التراكيب الشائع استخدامها لدى الناطقين باللغة العربية.
أما توظيف الخبرات اللغوية والتدريب عليها على المستوى الثقافي، فيركز على تزويد المتعلمين بالتعبيرات اللغوية العربية وتدريبهم على استعمالها في المواقف والمناسبات وفقا لمعانيها الطبيعية وسياقات استعمالها الثقافية كما يتفق عليه العرب ويتعودون عليه. ومن ذلك أن يزوَّد المتعلمون بالتعبيرات المناسبة للمواقف المختلفة مثل التحيات، والمجاملة، والمدح، والطلب، والعرض، والرفض، والتهنئة، والتعزية، وغيرها من المواقف، ويدرَّبوا على استخدامها بالأداء الصحيح شفهيا و كتابيا.
ويمكن أن يستعين المعلم في ذلك بالمواد الطبيعية مثل القصص، والروايات، والجرائد، والأفلام، والفيديوهات، وغيرها من النصوص التي يمكن أن يستخرج منها التعبيرات والعبارات مع معانيها وسياقاتها الطبيعية. ثم بعد ذلك يدرب المتعلمين على استخدامها من خلال النشاطات الصفية أو لعِب الأدوار أو المواقف الاتصالية المصطنعة.
وإلى جانب توفير تلك المواد التعليمية وتقديمها للمتعلمين فبإمكان المعلم أن يشجع المتعلمين على تطوير ذخيرتهم اللغوية تطويرا ذاتيا بالكلمات والعبارات والتعبيرات الشائعة المتداولة الواردة في سياقات مختلفة من استخدام اللغة العربية لدى الناطقين بها. وذلك على مبدأ أنهم لا يأخذون من اللغة العربية إلا ما يستخدمه أهلها، ولا يستخدمونها إلا بذات الطريقة التي يستخدمها بها أهلها.
وبهذا تكون اللغة العربية التي يجيدها المتعلمون تتصف بالتداولية وتساعدهم على التفاهم والتعارف مع أبنائها.