مازلنا مع الآية 22 من سورة الروم التي قال فيه تبارك وتعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ" والتي وقفنا عليها في المقال السابق واستخرجنا منها التوجيه التعليمي اللغوي الموسوم بـ"التعليم التكويني". أما في هذا المقال فالتوجيه التعليمي اللغوي الذي سنستخرجه من بين كلمات هذه الآية ونناقشه لأجل استثماره في تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى هو ما يمكن أن يطلق عليه "التعليم على أساس التقابل اللغوي".
ولقد أشارت إلى هذا التوجيه التعليمي اللغوي العبارة "وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ" الواردة في هذه الآية الكريمة اللتي تؤكد ضمنيا أن اللغات يختلف بعضها عن بعض وأن كل اللغات هي أجنبية بالنسبة لمن يتعلمها من غير أبنائها. وتعلم اللغات الأجنبية هو في المقام الأول تعلم ما فيها من الخصائص التي لا تتمتع بها لغات متعلميها. فجوانب الاختلاف تعد محورا رئيسيا في تعلم وتعليم اللغات الأجنبية وحسن إدارتها يعد أهمُّ أهمِّ عوامل النجاح فيه.
إن مصطلح اللغة الأجنبية مصطلح تعليمي اجتماعي يخص الذين يتعلمون لغة غير لغاتهم ويشير إلى اللغة التي يتعلمونها والتي تختلف لغويا وثقافيا عن لغاتهم. فكون العربية لغة أجنبية لا يعنى فقط أن تعليمها يتخذ مكانا خارج البلدان العربية ومن قبل الناطقين بلغات أخرى من أبناء الشعوب والثقافات المختلفة، وإنما يعني أيضا أنها تختلف عن لغاتهم سواء على المستوى اللغوي أم على المستوى الثقافي والاجتماعي. هذا بغض النظر عن أن بعض مستوياتها تتشابه مع لغاتهم إذ إن اللغات البشرية على اختلاف ثقافاتها وأنظمتها تتشابه فيما بينها وتتمتع كلها بخصائص مشتركة.
التشابه بين العربية ولغات متعلميها الأجانب يساعدهم على تعلمها إلى حد كبير إذ ما عليهم إلا أن ينقلوا ما يعتادون عليه في لغاتهم ويطبقوه في تعلمهم اللغة العربية. ومثال ذلك تعلم الأصوات العربية مثل: الباء، والتاء، والدال، واللام، والميم، والنون، وغيرها من الأصوات العربية التي لها مقابل في معظم اللغات الأجنبية. وبفضل تشابه هذه الأصوات في اللغتين فلا يحتاج المتعلمون إلى التدريب على نطقها بشكل دقيق. كل ما يحتاجون إليه هو معرفتها والربط بين صورتها المكتوبة والمنطوقة.
أما الاختلاف بين اللغة العربية ولغات متعلميها الأجانب فيضع بين أيديهم صعوبات تعليمية كبيرة منها أنهم يجدون في العربية ما لم يعتادوا عليه في لغاتهم وذلك ليس في قواعدها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية فقط، وإنما كذلك في القيم الثقافية والاجتماعية التي يخضع لها ويتقيد بها استخدامها. وكلما كانت درجة الاختلاف بين العربية ولغاتهم كبيرة كبرت درجة صعوبة تعلمها عليهم. ومثال ذلك تعلم بعض الأصوات العربية من قبل الناطقين باللغات الأخرى مثل صوت الثاء، والحاء، والذال، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والعين، والغين، والقاف، وغيرها من الأصوات العربية التي لا مقابل لها في بعض اللغات.
وكون هذه الأصوات تختلف عن أصوات لغات متعلميها يجعل تعلمها صعبا عليهم ويؤدي في أغلب الأحيان إلى وقعوعهم فيما يسمى بالنقل السلبي Negative transfer وهو أن ينقل المتعلم نظام لغته نقلا غير سليم ويطبقه في ممارسة اللغة العربية. أو أن ينطقوا الأصوات العربية الصعبة بذات الطريقة التي ينطقون بها أصوات لغاتهم الشبيهة بها كأن ينطقوا أصوات: /ص/، /ض/، /ط/، /ش/ كما ينطقون أصوات: /s/، /d/، /t/، /s/. ومثل هذا النقل السلبي يحدث أيضا على المستويات اللغوية الأخرى، مثل المستوى الصرفي، والنحوي، والدلالي، والمعجمي.
تذليلا لهذه المشكلة التي تصدر من الاختلاف بين اللغة العربية ولغات متعلميها الأجانب يمكن للمعلم أن يقدم تعليما على أساس التقابل اللغوي. وهو التعليم الذي يستمد من نتيجة التحليل الدقيق بين اللغة العربية ولغة متعلميها.
ويتم هذا النوع من التعليم إجرائيا من خلال ثلاث خطوات:
(1) تحليل الموضوع المراد تعليمه تحليلا تقابليا بين اللغة العربية ولغة المتعلمين.
(2) تحديد جوانب التشابه والاختلاف بين اللغتين في الموضوع المراد تعليمه.
(3) تعليم الموضوع ومعالجته بالتركيز على جوانب الاختلاف بين اللغتين.
يبدأ المعلم إجراءات هذا التعليم بتحليل الموضوع المراد تعليمه في اللغة العربية وما يقابلها في لغة الدارسين كأن يحلل تقابليا بين الأصوات العربية: ب/، /ت/، /ر/، /ص/، /ض/، /ط/، /ش/ مثلا والأصوات الأجنبية: /s/، /d/، /t/، /s/، /b/، /t/، /r/، لاكتشاف المتشابه والمختلف منها سواء من حيث المخرج أم من حيث الصفات، ثم يضع كلّا من المتشابه منها والمختلف في قائمة مستقلة كأن يضع في قائمة المتشابهات الأصوات /ب/، /ت/، /ر/، /b/، /t/، /r/ ويضع في قائمة المختلفات الأصوات /ص/، /ض/، /ط/، /ش/، /s/، /d/، /t/، /s/.
ثم يعالج المعلم هاتين القائمتين بطريقة مختلفة حيث يعالج الأصوات العربية التي تشبه الأصوات الأجنبية معالجة سطحية مركزة على التعريف بها ولا يدقق مع المتعلمين في التدريب النطقي عليها لأنها ليست جديدة عليهم ومن ثم لا تشكل عليهم نطقيا. أما الأصوات العربية التي تختلف عن الأصوات الأجنبية فيعالجها معالجة دقيقة لا تركز فقط على التعريف بها وإنما أيضا على التمييز بينها وبين تلك الأصوات الأجنبية.
ولأجل تدريب الطلاب على هذه الأصوات فعلى المعلم أن يعالجها معالجة تعرفية وتمييزية استقبالية كانت وإنتاجية. أما المعالجة التعرفية فهي أن يُسمع المعلم المتعلمين كلّا منها ويطلب منهم التعرف عليه من خلال اختيار أحد الأصوات القريبة منه نطقا، كأن ينطق المتعلم صوت الصاد /ص/ ويتعرف عليه المتعلمون باختيار صوت من خيارات الأصوات أمامهم: /س/، /ش/، /ص/، /ث.
أما المعالجة التمييزية فيجريها إما في درس مهارة الاستماع وإما في درس مهارة الكلام. أما في درس الاستماع فيجريها بصورة استقبالية وهي أن يسمع صوتا من هذه الأصوات الصعبة على المتعلمين مستقلا أو داخل الكلمة ثم يطلب منهم أن يميزوه من خلال اختيار صوت من ثنائية الصوتين المتشابهين التي وفرها لهم. ومثال ذلك أن ينطق المعلم صوت الصاد /ص/ ويسأل المتعلمين أن يختاروا أحد الصوتين في الثنائية التي وضعت لهم وهي: ص - س.
أما إجراؤها في درس مهارة الكلام فيتم إنتاجيا وهو أن يقدم المعلم الثنائيات الصغرى التي تتكون من تلك الأصوات الصعبة والأصوات التي تشبهها نطقيا والتي يميل إليها المتعلمون عادة عندما ينطقون تلك الأصوات الصعبة مثل: (ص – س)، (ض - د)، (ط – ت)، (ظ – ج)، ثم يسأل المتعلمين أن ينطقوا هذه الثنائيات الصوتية نطقا تمييزيا يراعي الاختلاف النطقي بينهما. والثنائيات التي تقدم لغرض التمييز الصوتي لا تتكون فقط من الصوتين وإنما أيضا من الكلمتين مثل: (سار – صار) أو الجملتين مثل: (سار الرجل منفردا – صار الرجل منفردا).
هذا التعليم التقابلي يمكن إجراؤه في تعليم جميع عناصر اللغة العربية ومهاراتها. ورغم أن المواد مختلفة فإن الخطوات التي يجب أن يتبعها المعلم في ذلك متساوية وهي أن يقارن مقارنة تقابلية بين موضوع اللغة العربية التي يريد تعليمها وما يقابله في لغة المتعلمين، ثم يحدد من نتائج هذه المقارنة ما بينهما من أوجه التشابه والاختلاف، ثم يقدم الموضوع بطريقة توضح الاختلاف وتمكن المتعلمين منه فهما وأداءً وتجعله عادةً لغويةً جديدة لهم يمارسونها ممارسة سليمة لا تتأثر بما يعتادون عليه في لغتهم الأم.