والآفة الكبرى أن يكون رديءَ الطبع بطيءَ اللفظ، كليلَ الحد، شديدَ العُجْب، ويكونَ مع ذلك حريصًا على أن يُعَدّ في البلغاء، شديدَ الكَلَف بانتحال اسم الأُدباء.
وبالجملة فإن لكل معنًى شريفٍ أو وضيعٍ، هَزْلٍ أو جدٍّ، وحَزْمٍ أو إضاعةٍ، ضربا من اللفظ هو حقُّه وحظُّه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزَه أو يَقْصُر دونه.
ومن قرأ كتب البلغاء وتصفَّح دواوين الحكماء، ليستفيدَ المعانيَ، فهو على سبيل صواب. ومن نظر فيها ليستفيدَ الألفاظَ فهو على سبيل الخطأ. والخُسرانُ هاهنا في وزن الربح هناك؛ لأن من كانت غايتُه انتزاعَ الألفاظ حمله الحرصُ عليها والاستهتارُ بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعَها في غير مكانها.
وإنما هي رياضة وسياسة، والرفيق مُصلِح والآخر (العنيف المُسْتكْرِه) مُفسُد. ولا بدَّ من هِدانٍ وطبيعة مناسبة.
وسماع الألفاظ ضار ونافع؛ فالوجه النافع أن تدور في مسامعه، وتَغِبَّ في قلبه، وتخْتَمِرَ في صدره، فإذا طال مُكْثُها تزاوجت ثم تلاقحت فكانت نتيجتُها أكرمَ نتيجةٍ، وثمرتُها أطيبَ ثمَرةٍ؛ لأنها حينئذ تخرج غير مُسْتَرَقَةٍ ولا مُخْتلَسَةٍ ولا مُغْتَصَبَةٍ، ولا دالَّةٍ على فَقْر.
ومتى اتّكل صاحب البلاغة على الهُوَيْنَى والوِكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلا، وشقّ عليه النزوعُ، واستولى عليه الهَوانُ، واستهلكه سوءُ العادة.
والوجه الضار أن يتحَفَّظ ألفاظًا بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يعد لتلك الألفاظ قسمَها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلا فقيرا، وحائِفًا سَرُوقًا، ولا يكون إلا مُسْتَكْرِهًا لألفاظه، متكلِّفًا لمعانيه، مُضْطَربَ التأليف مُنْقَطِعَ النظام. فإذا مرّ كلامه بنقّاد الألفاظ وجَهابِذَة المعاني استخفُّوا عقلَه، وبَهْرَجُوا علمه.
ثم اعلم أن الاستكراه في كل شيء سَمْجٌ، وحيث ما وقع فهو مذموم، وهو في الطُّرَف أسْمَجُ، وفي البلاغة أقْبَحُ.
المصدر
رسائل الجاحظ بتحقيق عبد السلام هارون.
ج 3 ص: 40-42 (بتصرف).