ثم قال: ولا بدّ له مع ذلك من النّظر في جمل من الفقه والحديث، ودراسة أخبار الناس، وحفظ عيون الأخبار ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا بها إذا كتب، أو يصل بها كلامه إذا حاوَر. وختم ذلك بأن قال: "ومدار الأمر في ذلك كلّه على القطب وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معهما بإذن الله تعالى كافٍ، والكثير مع غير هما مقصر".
وتابعه أبو هلال العسكري في بعض ذلك فقال في بعض أبواب كتابه "الصناعتين": "ينبغي أن تعلم أن الكتابة تحتاج إلى آلات كثيرة، وأدوات جمّة: من معرفة العربيّة لتصحيح الألفاظ وإصابة المعنى، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلّة وغير ذلك مما ليس هذا موضع ذكره وشرحه". ولا يخفَى أن ما ذكره وبعض ما ذكره ابن قتيبة، يتواردان فيه في المعنى وإن اختلف اللفظ.
وخالف أبو جعفر النحاس في كثير من ذلك فذكر في أوّل كتابه "صناعة الكتاب" في المرتبة الثانية منه بعد ما يتعلق بالخط: أن من أدوات الكتابة البلاغة، ومعرفة الأضداد مما يقع في الكتب والرسائل والعلم بترتيب أعمال الدواوين، والخِبرة بمجاري الأعمال، والدُّربة بوجوه استخراج الأموال، مما يجب ويمتنع. ثم قال: فهذه الآلات ليس لواحد منها تميُّز بذاته، ولا انفراد باسم يخصّه؛ وإنما هو جزء من الكتابة وأصل من أركانها. أما الفقه والفرائض والعلم بالنحو واللغة وصناعة الحساب والمساحة والنّجوم، والمعرفة بإجراء المياه، والعلم بالأنساب فكل واحد منها منفرد على حدته وإن كان الكاتب يحتاج إلى أشياء منها نحو ما يكتب بالألف والياء، وإلى شيء من المقصور والممدود. ولو كُلِّف الكاتب ما ذكره مَن ذكره لجُعِل الأصعبُ طريقا للأسهل والأشقُّ مفتاحا للأهون وفي طباع الناس النِّفار عمّا ألزمهم من جميع هذه الأشياء.
قلت: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حال الكتابة بحسب تنوعها، فكلّ نوع من أنواعها يحتاج إلى معرفة فنّ أو فنون تختصّ به.
على أن كاتب الإنشاء في الحقيقة لا يستغني عن علم ولا يسعه الوقوف عند فنّ، فقد قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في "المثل السائر" إن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فنّ من الفنون حتّى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادِبة بين النساء، والماشِطة عند جَلْوَة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السّوق على السّلعة فما ظنّك بما فوق هذا وذلك؟! لأنه مؤهّل أن يهيم في كل وادٍ، فيحتاج إلى أن يتعلق بكل فن.
واعلم أن كاتب الإنشاء وإن كان يحتاج إلى التعلق بجميع العلوم والخوض في سائر الفنون فليس احتياجه إلى ذلك على حدّ واحد بل منها ما يحتاج إليه بطريق الذات وهي موادّ الإنشاء التي يستمدّ منها ويقتبس من مقاصدها: كاللغة التي منها استمدادُ الألفاظ، والنحو الذي به استقامةُ الكلام، وعلوم البلاغة: من المعاني والبيان والبديع التي هي مناط التحقيق والتحسين والتقبيح ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.
وعلى هذا اقتصر الوزير ضياء الدين بن الأثير في "المثل السائر" وتبعه على ذلك الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله في كتابه "حسن التوسل". ومنها ما يحتاج إليه بطريق العرض كالطّبّ والهندسة والهيئة ونحوها من العلوم؛ فإنه يحتاج إلى معرفة الألفاظ الدائرة بين أهل كل علم، وإلى معرفة المشهورين من أهله ومشاهير الكتب المصنَّفة فيه لينظم ذلك في خلال كلامه فيما يكتب به من متعلَّقات كل فن من هذه الفنون.
المصدر:
كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 1/ 140، لأحمد بن علي القلقشندي (756 - 821 هـ / 1355 - 1418م). طبعة دار الكتب المصرية (مع اختصار النص بحذف بعض الفقرات).