على الرغم من حياته القصيرة فإنَّه أسهم في إغناء المكتبة العربية، وأثراها بمؤلفاته الأدبية والفكرية، كيف لا يكون ذلك وهو الأديب الذي يوصف بنبي الكلمات! وقد قال مُحاكيًا لنفسه تلك الهمّة العالية: "أعمالنا في الحياة، هي وحدها الحياة، لا أعمارنا ولا حظوظنا"، وقال أيضا: "إن لم تزد على الحياة شيئًا، تكن أنت زائدًا عليها".
كلماتهُ ولَّادةٌ، وأفكارهُ وقَّادةٌ، وسماتُ فكرهِ حين يكتبُ ترفع القارئ إلى أعلى الدرجات، وتُنزِّهُهُ عن لهو الكلمات، كان في منهجه مُتمثِّلاً بسيّد البلاغة والأدب نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين وصفته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها كما جاء في كتاب الشمائل المحمدية للترمذي: "ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسَرْدِكم هذا، ولكنَّه كان يتكلم بكلام يُبَيّنه، فَصْل، يحفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِليه"، وقد صرَّح الرافعي بقوله دليلًا على ذلك: "ثم إنه يُخيَّلُ إليَّ دائمًا أني رسولٌ لُغَويّ، بُعِثْتُ للدفاعِ عن القرآنِ ولُغَتِهِ وبَيَانِهِ".
وهنا أسألُ نفسي ذلك السؤال الـمُحيِّر، هل أُعطِي ذلك الأديب حقَّهُ في مدارسنا وجامعاتنا؟، أم أنَّ غُبار الزمان قد انهال علينا، فأنسانا حتى أنفسنا، فانشغلنا عنه، وهضمناه حقَّهُ؟!
تبًّا للسياسة وأفعالها، هل يُحْرَمُ الإنسانُ بفكرهِ إذا كان مُدافِعًا عن دينه ومعتقداته؟! أم أنَّ الفكرَ النَّاضجَ لا ينضجُ عند الجُهلاء، ويُحْرَمُ أحيانًا بغير حقٍ؟!
كنتُ أتساءلُ دائمًا كيف وصل إمام الأدب الرافعي رحمه الله إلى هذه القوة في التعبير التي نعجز عنها نحن اليوم؟ وكيف استطاع أن يكون بحقٍ نبيّ الكلماتِ وأديبَ العربيةِ وحُجَّتها؟!، فيكون الجواب مُتمثِّلًا في قراءة حياته، وحفظه للقرآن الكريم، وهو ابن عشر سنوات، وتتلمذه على أيدي كبار علماء عصره، ونهمه الشديد في حبِّ القراءة، والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها تحت كنفِ والدهِ العالمِ الذي أولاهُ عنايةً خاصةً مُنذ نعومة أظفاره.
لقد حاول الأديب الرافعي الانقلاب بحياته الأدبية لإعادة الهيبة والاعتبار للغة العربية، بعدما رأى ما وصلتْ إليه في المدارس والجامعات، فجاءتْ مؤلفاتهُ متنوعة تَصقل السليقة العربية، وتنمي الفكر السليم، فعندما يتحدَّثُ عن الحبِّ في كتابه: "أوراق الورد" و"السحاب الأحمر" يُبدع أيَّما إبداع.
ويُبدع أكثر فأكثر في مقالاته في كتابه: "وحي القلم" حين ينقلنا لمشاهد تمثيلية تصويرية ليروي لنا واقعًا مَعيشًا بطريقة فُكاهية، فيقول في مقالته "حديث قطَّين": "جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام: 1934 في موضوع الإنشاء ما يأتي:
تقابل قطَّان: أحدهما سمين تبدو عليه آثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله، فماذا يقولان إذا حدَّث كلٌّ منهما صاحبه عن معيشته؟ وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين، ولم يعرفوا كيف يوجهون الكلام بينهما، وإلى أيّ غاية ينصرف القول في محاورتهما، وضاقوا جميعًا وهم أطفال، أن تكون في رؤوسهم عقول السنانير، وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية، ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا تدبير هذه القطط لحياتها، وينفذوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها، ويمزقوا بمخالبها.." إلى آخر المقال.
ثم يُسطِّر لنا أروع فنٍّ بيانيٍّ من خلال صوره الفنية الرائعة في مقالته الربيع الأزرق، فيقول: "ما أجمل الأرضَ على حاشية الأزرقين: البحر والسماء، يكاد الجالس هنا يظنُّ نفسه مرسومًا في صورة إلهية. نظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعينَي طفل يتخيل أن البحر قد مُلِئَ بالأمس، وأن السماء كانت إناء له، فانكفأ الإناء، فاندفق البحر، وتسرحتُ مع هذا الخيال الطفلي الصغير، فكأنما نالني رشاش من الإناء".. إلى آخر المقال.
في نهاية المطاف أقول بلسان حال كلّ أديب صادق وقلم حر: لن أستطيع أن أوفيه حقه في هذه الأسطر القليلة، لكنني أتركُ التاريخ ليصوغَ مِن جديدٍ ما شوَّهه عُبَّادُ الأصنام الحيَّة، فنحن اليوم بواقِعنا السقيم في أمسِّ الحاجة إلى أدب الرافعي وفكرهِ، لنعود من جديد لنذُبَّ عن لُغَتِنَا كُلَّ دَخيلٍ.