"مَنْ" و"ما" كلمتان تستعملان في كثير من الأساليب والتراكيب اللغوية، وعدم معرفة مواقع استعمال هاتين الكلمتين وعلاقتهما بعناصر الجملة قد يؤدي إلى فهم الكلام على غير المراد منه كما وقع في قصة أبي الأسود الدؤلي وابنته، حيث قالت: ما أجملُ السماءِ. فقال: نجومُها، فبينت له أنها لا تستفهم بل تتعجب، فقال لها قولي إذن: ما أجملَ السماءَ!
وقد كان هذا الخلل في التعبير سببًا في سعي أبي الأسود لتدوين قواعد اللغة العربية، كما ترويه كتب تاريخ النحو.
استعمالات "مَنْ"
"مَنْ" كلمة تُستعمَل اسمًا يعبَّر به عن العاقل أو العاقل مع غيره غالبًا، ولها استعمالات متنوعة في المعاني والوظائف؛ إذ تأتي:
1 - شرطية، تجزم فعلين (فعل الشرط وفعل الجواب) مثل قوله تعالى "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ".
2 - استفهامية، كقوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ...؟".
3 - موصولة، كقوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ".
4 - نكرة موصوفة، مثل قولهم: مَرَرْت بِمَنْ معجبٍ لَك، أي بشخص معجب لك. وقول الشاعر:
ربّ مَنْ أنضجت غيظا قلبه * قد تمنّى لي موتًا لم يطع
أما من حيث الإعراب والوظيفة النحوية فإن "مَنْ" تؤدّي وظائف نحوية عديدة بحسب موقعها في الجملة، إذ تأتي مبتدأ مثل: "وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ، أو فاعلًا مثل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ"، أو مفعولا به مثل: "إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ"...
استعمالات "ما"
"ما" كلمة تُستعمَل اسمًا أو حرفًا يعبَّر به عن غير العاقل غالبًا، ولها كذلك استعمالات متنوعة في المعاني والوظائف؛ إذ تأتي:
1 - استفهامية، كقوله تعالى: "وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟".
2 - تعجبية، مثل قول الشاعر:
بِنَفْسِيَ تِلْكَ الأَرْضَ مَا أطْيَبَ الرُّبَى * وَمَا أحْسَنَ المُصْطَافَ وَالمُتَرَبَّعَا !
3- شرطية، تجزم فعل الشرط وفعل الجواب، كقوله تعالى: "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ".
4 - موصولة، كقوله تعالى: " لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ".
5 - نكرة تامّة، كقوله تعالى: "فَنِعِمَّا هِيَ" أي فنعم شيئًا هي، أو نكرة موصوفة كقول الشاعر:
ربما تكره النفوس من الأمـــــ*ــــــر له فرجة كحلّ العقال
6- نافية (أي حرف نفي) كقوله تعالى: "مَا هَذَا بَشَرًا".
7- مصدرية (أي حرفًا مصدريًّا) كقوله تعالى: "لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا"، أجر سقيك لنا.
8 - كافّة، تكفّ ما قبلها عن العمل فيما بعدها مثل قوله تعالى: "إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ".
9- زائدة مثل قول الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا * ألا يجاورنا إلاك ديارُ
10 – تعظيمية، تفيد التعظيم والتفخيم كقوله تعالى: "الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ".
وقد نظم بعض النحاة هذه المعاني لتسهيل حفظها فقال:
مَحامل ما عشر إذا رُمْت عدّها * فحافظ على بيت سليم من الشعر
ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها * بكفّ ونفي زيد تعظيم مصدر
ولـ"ما" كذلك وظائف نحوية عديدة فهي تأتي فاعلا كقوله تعالى: "فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، أو مفعولًا به كقوله تعالى: "وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ"..
الضمير العائد على مَنْ ومَا
يلزم أن يعود على الاسم الموصول ضمير يربط الصلة بالموصول، ويكون هذا الضمير غالبا مطابقا للموصول لائقا به كما قال ابن مالك: وكلها تلتزم بعده صله * على ضمير لائق مشتمله
ولكن "مَنْ" و"ما" تُستعمَلان بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنّى والجمع فكيف يكون الضمير العائد عليهما؟
هذه مسألة فيها كثير من المرونة والسعة، حيث يجوز مراعاة لفظ "من" و"ما" وهو لفظ مفرد مذكّر والإتيان بالضمير مفردًا مذكّرًا وهذا هو الاستعمال الراجح عند النحاة إذا لم يؤدّ إلى اللّبس، ويجوز مراعاة معناهما أي ما تدلّ عليه "مَنْ" أو "ما" واستعمال الضمير مطابقًا لذلك. وهكذا يأتي الضمير العائد على "مَنْ" و"ما":
1 - مفردا مذكّرا مراعاة للّفظ، ومنه قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ"، وقوله: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً"، إذ أسند الفعل في الآية إلى ضمير مفرد مراعاة للفظ "مَنْ" على الرغم من أنها تعبر هنا عن جمع.
2 - مطابقا مراعاة للمعنى (أي معنى ما تنوب عنه من أو ما)، ومنه قوله تعالى: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ"، إذ أسند الفعل في هذه الآية إلى ضمير جمع مراعاة لمعنى "مَن"، ومنه قول الشاعر مخاطبا ذئبًا:
تعشّ فإنْ عاهدتني لا تخونني * نكن مثل مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ
إذ جاء الضمير في "يصطحبان" مثنّى لأن "مَن" هنا تدل على اثنين: الشاعر والذئب.
وقد يأتي هذا الضمير مراعيا للفظ ثم يأتي بعد ذلك مراعيا للمعنى كقوله تعالى: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ".
وربما ورد مطابقا مراعاة للمعنى ثم جاء بالإفراد والتذكير مراعاة للفظ كقوله تعالى: "وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا".
مقالات أخرى للكاتب