فلما تدبّرته علمت أن الناس كلَّهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكنْ رأيتُهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم. فمن مخطئٍ وجْهَ سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب، وهو الأقل من الناس في الأقل من أموره.
فطرْدُ الهم مذهب قد اتفقت الأمم كلها -مذ خلق الله تعالى العالم- على أن لا يعْتمِدوا بسعيهم شيئا سواه، وكلُّ غرض غيره ففي الناس من لا يستحسنه؛ إذ في الناس من لا دين له فلا يعمل للآخرة، وفي الناس من أهل الشر من لا يريد الخير ولا الأمن ولا الحق، وفي الناس من يؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت، وفي الناس من لا يريد المال ويؤثر عدمه على وجوده، وفي الناس من يُبغِض اللذات بطبعه ويستنقص طالبَها، وفي الناس من يؤثر الجهل على العلم، كأكثر من نرى من العامة.
وهذه هي أغراض الناس التي لا غرض لهم سواها. وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم، ولا يريد طرحه عن نفسه.
فلما استقرَّ في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم، بحثت عن سبيل موصّلة -على الحقيقة- إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان على السعي له، فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة؛ فإنما طَلبَ المالَ طُلّابُه ليطردوا به عن أنفسهم هَمَّ الفقر، وإنما طلب الصيتَ من طلبه ليَطْرُدَ به عن نفسه همَّ الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللّذّاتِ من طلبها ليطرد بها عن نفسه همّ فَوْتِها، وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه همّ الجهل، وإنما هَشّ إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه همّ التّوَحُّد ومَغِيب أحوال العالم عنه.
وفي كل ما ذكرنا لمن تدبّره همومٌ حادثة لا بد منها؛ من عوارضَ تَعرِض في خلالها، وتعذُّرِ ما يتعذّر منها، وذَهاب ما وُجِد منها والعجزِ عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضا سوءُ شُحٍّ بما حصل عليه من كل ذلك؛ من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عَدُوٍّ، مع الذمِّ والإثم وغيرِ ذلك.
ووجدتُ العمل للآخرة سالما من كل عيب، خالصا من كل كَدَر، مُوَصِّلا إلى طرد الهم على الحقيقة.
ووجدتُ العاملَ للآخرة إن امْتُحِن بمكروه في تلك السبيل لم يَهْتَمّ بل يُسَرّ، إذْ رجاؤه في عاقبة ما ينال عونٌ له على ما يطلب.
ووجدته إن قُصِد بالأذى سُرّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرّ. فهو في سرور متصل أبدا، وغيرُه بخلاف ذلك أبدا.
فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى، وما عداه ضلال وسخف.
المصدر:
رسالة مداواة النفوس (ضمن رسائل ابن حزم)
تحقيق إحسان عباس
المؤسسة العربية للدراسات والنشر
ج 1 ص 336-338 (بتصرف).