قال الراوي:
كان بأرض مصر في قديم الزمان، سيدتان متجاورتان، إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، وتسمى كل منهما "فرتونة"!
وكانت فرتونة "البيضاء" شديدةَ القسوة على فرتونة "السوداء"، وكثيرا ما تسخر منها وتعيّرها بلونها!
وذات يوم تسوّر ديك لفرتونة السوداء حائط فرتونة البيضاء، فأقبلت عليها:
يا سوداء يا فحمة يا ظلام الليل!
السوداء: لا حول ولا قوة إلا بالله!
البيضاء: ألم أقل لك أن تحبسي هذا الديك اللعين في القفص؟
السوداء: معذرة يا أختي، ما علمت والله أنه تسوّر حائطك.
البيضاء: بل تعمّدْتِ إرساله ليأكل الحب عندي!
السوداء: خذي ما شئت من هذا الحَبّ مكان ما أكله عندك واكفيني شر لسانك!
وهنا أقبل عليهما "الكاتب" أبو نصر.
الكاتب: ما الخطب؟ دائما في شجار وخصام؟ أيُّ عِيشة هذه؟
السوداء: ليتَكَ تدُلُّني على بيت آخر أسكنه بعيدا عن هذه المُؤْذِيَة!
البيضاء: دَعِيه يكتبْ لك رسالةً أخرى إلى أمير المؤمنين في دمشق!
السوداء: أوه! انتهينا من قصة الديك ورجعنا إلى قصة الرسالة!
البيضاء: نعم، إنها أطرف قصة يتحدث بها السُّمّار!
رسالة من فرتونة السوداء إلى أمير المؤمنين في دمشق!
السوداء: اسخري ما شئت... سأذهب إلى بعض جاراتي!
الكاتب: وأنا أيضا سأنصرف.
البيضاء: انتظر قليلا أيها الكاتب! إن عمّال الخليفة سيسألون عمن كتب تلك الرسالة ليقطعوا يده!
الكاتب: هذا غير معقول!
البيضاء: خبِّرْني هل تكتب بيدك اليسرى أيضا؟
الكاتب: كلا، إنما أكتب بيدي اليمنى فقط!
البيضاء: سينقطع عيشك يا بطل!
الكاتب: ويلي! هذا شرطيٌّ مُقْبِل!
البيضاء: ألم أقل لك؟ وهذه بغلة أحد الأمراء!
الأمير أيُّوب بْنُ شُرَحْبِيلَ: السلام عليكم يا أهل الدار!
البيضاء: وعليك السلام!
الأمير: أهذا منزل فرتونة؟
البيضاء: نعم يا سيدي!
الأمير: أنت فرتونة؟
البيضاء (مُتَلَعْثِمة): نعم يا سيدي، لا لا، يا سيدي الأمير!
الأمير: وَيْحَكِ ألستِ أنتِ التي كتبتِ إلى أمير المؤمنين أن يُصْلِحَ حائطَك؟
البيضاء: حاشَا لله أن أرتكب مثل هذا الجُرْم!
الأمير ضاحكًا: لا تخافي! إنما جئنا لإصلاح حائطك بأمر أمير المؤمنين!
الكاتب: (وكان قد اختفى خوفًا من الأمير): لا تصدِّقْها يا سيدي الأمير، هذه ليست صاحبةَ الرسالة!
الأمير: وأين صاحبةُ الرسالة؟
الكاتب: سأدعُوها لك الساعة!
الشرطي (مخاطبا البيضاء): ويلك أتَكْذِبِين على عامل أمير المؤمنين؟
البيضاء: سامحني يا سيدي الأمير!
الأمير: إن صدقتني القول سامحتك!
البيضاء: ظننتُ أنّكم جئتم لمعاقبة فرتونة السوداء لتطاولها على أمير المؤمنين، فلما علمت أنكم جئتم لإصلاح حائطها طَمِعتُ أن تُصلحوا حائطي أيضا، فإنه قصير يتسوَّرُه اللصوص!
الأمير: لا تخافي سنبني لك حائطا أيضا!
الكاتب: هذه هي صاحبة الرسالة، فرتونة السوداء، يا سيدي الأمير!
الأمير: هذا جواب أمير المؤمنين لك يا فرتونة!
السوداء: جواب أمير المؤمنين!
الأمير: نعم!
"بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله عمر بن عبد العزيز، أمير المؤمنين، إلى فرتونة!
بلغني ما ذكرتِ من قِصَر حائطِك، وأنّ اللصوص يتسوّرونه فيسرقون دجاجك!
وقد كتبت إلى أيوب بن شُرَحْبِيل أن يبنيَ لك حائطا يُحَصِّنُك مما تخافين. والسلام!"
* المصدر
مسرحية "الحائط القصير" لعلي أحمد باكثير (بتصرف).