"فات الأوان" عبارة يرددها كثيرون عند حديثهم عن رغبتهم في تعلم لغة ما، معتقدين أنّه من المستحيل أن ينجحوا في تعلّم لغة جديدة إذا تقدّم بهم العمر قليلًا.
هذه الفكرة، بغضّ النظر عن صحتها، لا تأتي من فراغ؛ فلها أصول في علم اللغويات ونظريات تعلم اللغة الثانية والجدل الكبير القائم حول ما يسمّى "الفترة الحرجة" في التعلّم. فما هي الفترة الحرجة لتعلم اللغات؟ وما أهم النظريات المتعلقة بها؟ وهل يفوت الأوان حقًّا؟
فرضية الفترة الحرجة في اكتساب وتعلّم اللغة
يصاحبُ الخوض في فرضية الفترة الحرجة جدلٌ كبير بين علماء اللغة والمختصين في اكتساب اللغة وتعلم اللغة الثانية بين مؤيد ومعارض، ومفاد هذه الفرضية أن القدرة على اكتساب اللغة مرتبط بعامل العمر؛ حيث لا يمكن للإنسان أن يكتسب اللغة اكتسابًا كاملًا يجعله متحدثًا أصليًّا بها إذا تجاوز عمره مرحلة الطفولة. وكذلك فإن عملية تعلّم اللغة الثانية تصبح أصعب وأكثر تعقيدًا مع التقدّم في العمر بناءً على الفرضية ذاتها.
ترتبط هذه الفرضية في علم اللغويات بفرضية شبيهة قادمة من علوم الأحياء البشرية، تفيد بأن العضو البشري لا يكون قادرًا على اكتساب القدرة أو المهارة الخاصة به إن لم يتعرض إلى المؤثرات الحسيّة العصبية الضرورية خلال مرحلة النمو (الفترة الحرجة)، وعليه فإنه لن يكون قادرًا على اكتسابها لاحقًا وإن تعرّض لهذه المؤثرات. فمن وُلد في الظلام وعاش فيه مثلا، لن يكون قادرًا على الإبصار وإن تعرّض للنور في وقت لاحق.
سنوات الفترة الحرجة
يختلف اللغويون في تحديد الفترة الحرجة لاكتساب اللغة، وذلك نظرًا لوجود عوامل كثيرة تؤثر في هذه الفترة. فبالإضافة إلى التباين بين القدرات الذهنية ومستويات الذكاء وسرعة التعلّم، هناك البيئة التي ينشأ فيها الأطفال، ومدى تعرّضهم لمفهوم ثنائية اللغة أو تعدد اللغات. ولكن الغالبية من المختصين تشير إلى أن الفترة الحرجة هي الفترة الممتدة من سن خمس سنوات إلى عشر سنوات، أو في حدٍّ أقصى إلى سنّ البلوغ؛ أي أن التعرّض الكافي للغة الهدف يجب أن يكون خلال هذه الفترة للوصول إلى مستوى الطلاقة اللغوية.
الفترة الحرجة القوية والفترة الحرجة الضعيفة
قاد تعقيد تعريف "الكفاءة اللغوية" وما يعنيه بالضبط كونك متحدثًا أصليًا باللغة إلى زيادة الجدل بين اللغويين فيما يتعلق بنظرية الفترة الحرجة، وهو ما دفعهم إلى التفريق بين فترتين حرجتين، إحداهما قوية والأخرى ضعيفة. فقد أثبتت التجارب والدراسات أن ثمة جوانب لغوية معينة، كتعلم القواعد والمفردات والقدرة على التحكم في اللفظ، يمكن أن تتطور بشكل كبير مع استمرار التعرض والتدريب بغض النظر عن عمر المتعلم. وتندرج هذه الجوانب تحت مفهوم "الفترة الحرجة الضعيفة"، وهناك جوانبُ لغوية أخرى أشد تعقيدًا كاللهجة والتلفظ والنبر تندرج تحت مفهوم "الفترة الحرجة القوية" التي تكون أقصر بطبيعة الحال.
دراسة جديدة ونتائج جديدة
أكدت دراسة جديدة أجراها باحثون من جامعة ماساتشوستس الأمريكية (MIT) أنه كلما كان التعلم أبكر زادت القدرة والكفاءة اللغوية، وهو ما يؤيد الفرضية ويثبتها، إلا أن نتائج الدراسة ذاتها تؤكد أمرًا جديدًا غير متوقع، وهو أن الفترة الحرجة قد تمتد في حالات كثيرة إلى عمر يصل إلى ١٨ عامًا. ولكن الدراسة تشير كذلك إلى أنه قد يكون من المستحيل الوصول إلى مستوى كفاءة قريب من مستوى المتحدث الأصلي للغة إن لم يتم بدء تعلمها قبل سن العاشرة.
يقول البروفسور جوش تينن باوم، أستاذ العلوم الذهنية والدماغية في الجامعة، وأحد المشاركين في الدراسة: "لطالما كان من الصعب جدًّا الحصول على جميع البيانات المطلوبة للإجابة عن سؤال: إلى متى تستمر الفترة الحرجة؟ إنها إحدى الفرص النادرة في تاريخ العلوم، التي تمكنا فيها من العمل على سؤال قديم جدًّا، حاول الإجابة عليه وكتب عنه العديد من الأذكياء، وها نحن نجيب عنه من زاوية مختلفة ونرى شيئًا ربما لم يتمكن سوانا من رؤيته".
بُنيت نتائج الدراسة على تحليل لاختبار في القواعد باللغة الإنجليزية أجراه ما يقارب ٦٧٠ ألف شخص، لتكون بذلك أكبر الدراسات المتعلقة بتعلم اللغة من حيث البيانات. وبعد الإجابة عن أسئلة الاختبار، طُلب من المستخدمين الإفصاح عن أعمارهم وعن الأعمار التي بدؤوا فيها تعلم اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى بيانات أخرى متعلقة بخلفياتهم اللغوية. وبعد الانتهاء من جمع هذه البيانات الهائلة، باشر الباحثون عملية التحليل.
هذه الدراسة، ودراسات أخرى، والتجارب العملية الكثيرة التي يُلاحَظ فيها سرعة الأطفال في تعلم اللغات مقارنة بالكبار، كلها تؤكد على مصداقية فرضية الفترة الحرجة، إلا أنها لا تغلق البابَ أبدًا في وجه الراغبين في تعلم اللغات الجديدة، ولا تسلبهم أمل إتقانها. فإذا كانت هذه الأبحاث تؤكد على أن التعلم في الصغر أنجع وأسهل، فليس ثمة أبحاث تقابلها تفيد بتوقف القدرة على التعلم بعد سنّ معينة مهما كانت كبيرة. كما أن الكفاءة اللغوية والمعرفة الأكاديمية للغة ما، لا تستلزم بالضرورة أن يبدو المتعلم كمتحدث أصلي لها، ولا تستدعي الإلمام بجميع جوانب اللغة، وخاصة تلك المتعلقة بإتقان اللهجة واللفظ.
تذكّر أن الأوان لم يفت ولن يفوت أبدًا، وبحسب فرضية الفترة الحرجة، فأن تبدأ التعلم اليوم خيرٌ من أن تبدأ غدًا.