كيف نعلم أطفالنا العربية؟

لغة عامة | المتقدم الأدنى

حين نريد تعليم اللغة العربية على منهاج صحيح، فإن علينا أن نحاكي الطبيعة في منهاجها الواضح؛ فقد فرضت الطبيعة على كل ناشئ يتلقى لغة من اللغات، أن يَمُرّ في أطوار التعليم بثلاث مراحل: السماع والتلقين، ثم المحاكاة والتقليد، ثم الابتكار والإنشاء.

فإن الطفل يولد وله صوت وسمع وليس له بيان، ثم يأخذ بمحاكاة الأصوات التي يسمعها، فإذا تكوّنت له أعضاء النطق أخذ يلتقط الكلمات مما يسمع من أهله فيرددها كما سمعها بلهجتها ونبرتها، ثم يتدرّج من ذلك إلى التعبير عن حاجته باللسان الذي يتحدث به مَن حوله، على أن قاموسه في ذلك لا يعدو كلماتٍ قليلةً على مقدار وَعْيه وحفظه وقدرته على التقليد، وكلما تقدمت به السن واتسعت الدائرة التي يضطرب فيها ويستمع إليها ويأخذ منها؛ زاد محصوله اللغوي، ثم لا يلبَث أن يُلِمّ بكل معنى وبكل لفظ وبكل عبارة، فيتحدث كما يتحدث الناس، وحينئذ يتم تمامه اللغوي في اللغة التي يتحدث بها أهله.

وهكذا ينبغي أن نعلم العربية على الطريقة التي يتعلم بها الطفل كيف يتكلم؛ فلنجعل دروس العربية الأولى: أن نتحدث إلى التلميذ ثم نسأله أن يتحدث، وأن نَحْمِله على المطالعة ثم نطلب إليه أن يكتب، وأن نقدم له الغذاء من متن هذه اللغة ومن أساليبها في أقاصيصَ صغيرةٍ مسلّيةٍ نقُصّها عليه بلسان عربي سَلِسِ الأداء واضحِ النبَرات مفهوم المعنى، ثم نطلب إليه أن يعيد ما سمع بلغة كالتي تحدثنا بها إليه ولا تخرج عن قاموسه الذي أملينا عليه في هذه الأحاديث والقصص التي روينا له، ولا نَفْتَأُ كلَّ يوم نزيد في معجمه اللغوي كلماتٍ وأساليبَ فيما نتحدث به إليه، فإذا بلغنا به مبلغا مرضيا بهذه الوسيلة فلنفكّر حينئذ في تلقينه قواعد اللغة وموازين الكلام الصحيح، لا على أنها قواعد جديدة يجب أن يدرسها، بل على أنها جزءٌ غيرُ مسموع من الكلام الذي سَمِع، ونطقٌ غيرُ ملفوظ من الكلام الذي تَحدّث به.

وعلى هذا المنهج الطبيعي نفسه تخرّج الخالدون من أدباء هذه الأمة، فبلغوا ما بلغوا وخلّفوا لنا هذا التراث الباقي على الزمن من الشعر والأدب. وطريقة الأخذ عن الرواة هي طريقة الطبيعة نفسها، وهي التي تؤهِّل الأديب أو الشاعر للتفوُّق في الأدب والإجادة فيه.

وما كان الأصمعي وأبو عبيدة والقالي وغيرُهم ليعلِّموا تلاميذهم أول ما يعلمونهم المحادثة والإنشاء والقواعد والتطبيق، وإنما كانت دروسهم في حلقات الدرس والرواية هي هذه الأمالي الباقية من جيد الشعر والخطب والأمثال والقَصص، أما النحو والصرف وقواعد البلاغة فكانت شيئا من وراء ذلك لا يُنظر إليه إلا عند الحاجة، وهي اليوم عندنا أول الطريق وآخره!

إن الآفة والعلة والداء ليست في قواعد البلاغة ومصطلحات النحو وفصول الأدب؛ فليس علينا أن نجعل هذه المقاييس اللغوية تسليةً ومَلْهاة يتلهَّى بها التلميذ في وقت بطالته وفراغه كأنها قصة أو فُكاهة، فما هذا موضعها من العلم ولا مكانها؛ ولكن العلة والآفة والداء أننا نعلِّم التلميذ قواعد اللغة قبل أن يعرف شيئا من اللغة أو يقرأ منها قدرا صالحا يعينه على الفهم والمحاكاة، وأننا ندرِّس له قواعد البلاغة ومقاييس البيان قبل أن نقدّم له من نماذج الكلام البليغ ما يُنَبّه فيه مَلَكَة النقد، وأننا نُجَرِّعه مصطلحات الأدب وفنونه قبل أن يتذوّق الأدب نفسه.

إن قواعد النحو، ومصطلحات الأدب، وفنون البلاغة، كفلسفة القصة من القصة؛ لا ينبغي التفكير فيها والمعاناة في استخراجها قبل الفراغ من القصة نفسها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، كما يقولون؛ فصوِّروا للطفل آداب لغته قبل أن تُعْطوه هذه المقاييس ليزن بها ما ليس في يده!

المصدر:

مجلة الرسالة، العدد 210 (12/07/1937).

الضعف في اللغة العربية للأستاذ محمد سعيد العريان (بتصرف).