حدّثنا عيسى بن هشام قال: دخلت مارِسْتَانَ البَصْرةِ ومعي أبو داود المتكلّم، فنظرتُ إلى مجنون تأخذُني عينُه وتدعُني، فقال: إن تَصْدُقِ الطيرُ فأنتم غُرَباءُ!
قلنا: نحن كذلك!
فقال: مَنِ القومُ لله أبوهم؟!
فقلت: أنا عيسى بن هشام وهذا أبو داوود المتكلم (المعتزلي).
فقال: أبو داوود العسكري؟
قلت: نعم!
فقال: شاهت الوجوهُ وأهلُها! إن الخِيَرَة لله لا لعبده، والأمور بيد الله وحده. وأنتم يا مجوس هذه الأمة تعيشون جَبْرا، وتموتون صَبْرا، وتساقون إلى المقدور قَهْرا، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.
أفلا تُنصِفون إن كان الأمر كما تَصِفون؟
تقولون: خالق الظُّلْم ظالم؛ أفلا قلتم خالق الهُلْك هالك؟ أتعلمون يقينا أنكم أخبثُ من إبليس دينا؟ قال رب بما أغويتني... فأقر وأنكرتم، وآمن وكفرتم! فليُخْزِكم أن القرآن بَغِيضُكم، وأن الحديث يَغِيظُكم!
إذا سمعتم: "من يضلل الله فلا هادي له" أَلْحَدْتُم، وإذا سمعتم: "زُوِيَتْ ليَ الأرض فأُرِيتُ مشارقَها ومغاربَها"؛ جحدتم. وإذا سمعتم: "عُرِضَتْ عليّ الجنة حتى هَمَمْتُ أن أَقْطِف ثمارها، وعُرِضَتْ عليّ النار حتى اتّقَيْتُ حَرّها بيدي"؛ أَنْغَضْتُم رُؤوسَكم ولَوَيْتُم أعناقَكم.
وإن قيل: "عذاب القبر" تطيّرتم، وإن قيل: "الصراط" تغامزتم. وإن ذُكِر الميزان قلتم: من الهواء كِفَّتاه! وإن ذُكر الكتاب قلتم: من القِدّ دَفَّتاه!
يا أعداء الكتاب والحديث، أبِالله وآياته ورسوله تستهزئون؟
إنما مَرَقَتْ مَارِقَةٌ فكانوا خَبَثَ الحديث، ثم مرقتم منها فأنتم خبث الخبيثب، يا أخابيث الخوارج ترون رأيهم إلا القتال!
المصدر:
مقامات بديع الزمان الهمذاني بشرح الإمام محمد عبده.
دار الكتب العلمية (2005).
ص 141 (بتصرف).