في كلمته التي أعلن فيها اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، راهن الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن الرد عليه سيكون مؤقتا وعابرا، وهو ما يجعل ديمومة الغضب جزءا من معادلة نجاح معركة الدفاع عن القدس.
(2)
تقع على عاتق منظمة التعاون الإسلامي مسؤولية أخلاقية وأدبية تجاه القدس، كما أن الحدث اليوم طارئ وخطير على مصير القدس ومستقبل القضية الفلسطينية، الأمر الذي رفع سقف التوقعات بخصوص قمة إسطنبول رغم تاريخ المنظمة -والمنظمات الشبيهة- الحافل بالمواقف غير المرتفعة السقف.
خرج الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي بقرارات تحمل رمزية سياسية رفضت قرار ترمب ودعته للتراجع عنه، واتخذت ما بدا وكأنه القرار المقابل له أي الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها "القدس الشرقية المحتلة".
(3)
لكن غابت في المقابل القرارات العملية القادرة فعلا على الضغط على الإدارة الأميركية لعدة أسباب في مقدمتها الجمود والترهل اللذَيْن تعاني منهما مفاصل المنظمة، والخلافات بين دولها الأعضاء، ومستوى التمثيل المتدني لبعض الدول الفاعلة ولا سيما المملكة العربية السعودية ومصر.
تحمل قرارات منظمة التعاون في إسطنبول أرضية يمكن البناء عليها، لكن ينبغي التنبه إلى أن بعض القرارات لها مدلولات ليست بالضرورة إيجابية للقضية الفلسطينية. فالإعلان عن "القدس الشرقية" عاصمة لدولة فلسطين يعني الاعتراف الضمني بتبعية "القدس الغربية" لدولة الاحتلال، وهو ما يرفضه الشعب الفلسطيني بعمومه، فضلا عن كونه تنازلا غير مبرر قبل أي عملية سياسية مفترضة.
من بين مخرجات القمة مطالبة مجلس الأمن بالاضطلاع بمسؤولياته، ولم يتمكن مجلس الأمن من التصرف بسبب تصويت سلبي من جانب عضو دائم.
تدرك الدول العربية والإسلامية أن قرار ترمب بخصوص القدس له تبعات كارثية على مصير المدينة ومستقبل القضية الفلسطينية، وبالتالي فالقدس هنا بمثابة خط الصد الأول للأمن القومي العربي والإسلامي، الأمر الذي يرتب مسؤوليات عليها جميعا.
لا يبشر المسار الرسمي بكبير إنجاز بالنسبة لقضية القدس، ولعله لا يحمل وفق المعطيات الحالية إمكانية النجاح في مواجهة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية.
(4)
الاستثناء الوحيد للأطراف الرسمية هو السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس، التي تملك أوراق ضغط حقيقية تبدأ بالرفض الفعلي للدور الأميركي في عملية التسوية، وتمر بوقفة صادقة ومراجعة حقيقية لهذه العملية منذ 1993 وحتى الآن وما جرته من كوارث على القضية الفلسطينية، ولا تنتهي عند وقف التنسيق الأمني وتخفيف القبضة عن الناشطين والمقاومين في الضفة الغربية المحتلة، فضلا عن المسار السياسي والقانوني على الساحة الدولية.
إذن، فالرهان الرئيس هو البعد الشعبي ودور الشارع في معركة القدس، محليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخارجيا في الدول العربية والإسلامية والعالمية.
5)
فالهبة التي بدأت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما القدس والضفة، ذات تأثير مباشر على الاحتلال وغير مباشر على قرار الإدارة الأميركية بالتبعية. وهي هبة قادرة على الاستمرار والتأثير وتحمل فرص التحول إلى انتفاضة شعبية بالنظر لرمزية القدس -التي كانت سبب اشتعال الانتفاضة الثانية- وخطورة ما ينتظرها. وقد أثبت الفعل الشعبي قدرته على تغيير قراراتٍ وسياسات سابقة للاحتلال، وآخرها ما حصل لقرار البوابات الإلكترونية في المسجد الأقصى الذي تراجع عنه الاحتلال رضوخًا للهبة الشعبية في حينها.
(6)
وباعتبار أن القدس ليست شأنا فلسطينيا بل قضية العرب والمسلمين ثم أحرار العالم، تقع على كاهل الشارع العربي والإسلامي مسؤوليات حقيقية. ينبغي للحراك العربي والإسلامي القائم أن يستمر ويتفاعل ويتزايد، أولا لإسقاط رهان ترمب ونتنياهو على هبة مؤقتة وعابرة، وثانيا لدعم الحراك الفلسطيني الداخلي، وثالثا لدعم الحكومات الراغبة في عمل شيء يفيد القضية والضغط على الأخرى.
بيد أن الفعل الشعبي ينبغي ألا يقتصر على المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات، على أهميتها، بل يجب أن يستغرق كافة مجالات العمل الشعبي من اتحادات ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني وصولًا إلى العمل البرلماني الفاعل اتجاه القدس، وينبغي لأهداف هذا الحراك أن تتخطى حاجز التحشيد وصولًا إلى نشر الوعي ثم التأثير السياسي. ولعله أتى الوقت الذي يجب على الشعوب العربية والإسلامية أن تعيد الاعتبار لحملة مقاطعة البضائع الأميركية، فضلا عن "الإسرائيلية"، باعتبارها فعلا شعبيا قادرا على إيصال الرسالة إن خطط له جيدا.
القدس للجميع، ومعركتها معركة الجميع، وتقع مسؤولية حمايتها على عاتق الجميع، كل بحسب موقعه وإمكاناته ومجال تخصصه.