على رفوف المكتبات العربية تستلقي سيرٌ عظيمة لرجال عِظام، عن صاحب الكتاب أحدّثكم عن سيبويه، وما أدراك ما سيبويه!
إذا قيل الكتاب عرف الناس أن المقصود كتاب سيبويه الذي لم يحتج إلى عنوان وصار أشهر من أن يعرّف. خلْف هذا الكتاب تقف شخصية قلقة لم تعمَّر طويلا وكأنها مرت في مهمة إنجاز الكتاب ومضت.
سيبويه إمام نحاة العربية، ولد في البيضاء في بلاد فارس سنة 148 للهجرة، وسيبويه لقب لم نتأكد ممن أطلقه عليه، لكنه يعني رائحة التفاح. اسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، وكنيته أبو بشر. هاجر أهله إلى البصرة حيث ترعرع على حب العلم في ربوعها.
بدأت حكايته مع النحو من موقف صعب مرّ فيه. لحَن في اللغة وهو يستملي من شيخه حمّاد البصري حديثا شريفا، وعندما لحّنه الحاضرون قال والله لأطلبنّ علما لا يلحّنني معه أحد.
يحدثنا الرواة أنه كانت للسانه حبسة يتعذّر عليه الكلام حين يطلبه، وقد قال فيه معاوية بن بكر العليمي: ونظرت في كتابه فرأيت علمه أبلغ من لسانه.
احتاج إلى العلم فلزم عبقري العربية الخليل بن أحمد، وكان الأقرب إليه وأكثر تلاميذه تأثيرا فيه، وتتلمذ أيضا على كبار علماء اللغة في البصرة كالأخفش وعيسى بن عمرو، وأبي زيد النحوي.
أما بالنسبة إلى تلاميذه فإن عمره القصير لم يسعفه في مراكمة التلاميذ، لكن يكفينا أن نعلم أن اثنين من أهم علماء اللغة تتلمذا عليه الأخفش الأوسط وقطرب.
بعد أن ذاع صيته في البصرة استُدعي إلى بغداد عاصمة الخلافة والعلم للمناظرة بينه كممثل عن المدرسة البصرية في النحو، وبين الكسائي كممثل عن المدرسة الكوفية. وقد ذاع صيت هذه المناظرة وانتظرها الناس. تشير الروايات إلى أن الكسائي دبر مكيدة لمنافسه، فقد حضر المناظرة بصحبة عدد من الأعراب، ثم سأل الكسائي سيبويه كيف تقول في: قد كنت أحسب أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها*؟ فكان جوابه سيبويه أن قال: فإذا هو هي، بينما أجاز الكسائي الجوابين معًا رفعًا ونصبًا، فأنكر سيبويه قوله.
وحين احتاجَا إلى التحكيم أشار الكسائي إلى الأعراب الذين أحضرهم وكانوا واقفين بالباب فأدخلوا وظهرت المؤامرة في مناصرتهم لقول الكسائي.
هذه المناظرة أيها السادة كان وقعها قويا جدا على سيبويه، أصابه في وجدانه فأصاب فيه مقتلا وترك بغداد، ثم ما لبث أن ترك البصرة ليعود إلى خراسان حيث يقال إن الهمّ والكدر أصاباه بمرض في معدته توفي على إثره.
ترك لنا سيبويه الكتاب مصنّفه الوحيد الذي يشكل لبنة لكل ما جاء بعده من كتب نحو ورسائل واجتهادات. والكتاب جاء بلا مقدمة ولا خاتمة ولا حتى عنوان، وذلك سبب تسميته بالكتاب، فقد مات سيبويه قبل أن يخرج الكتاب إلى النور، واهتم بإخراج الكتاب تلميذ سيبويه أبو الحسن الأخفش الذي نشره بلا إضافات أو تعديلات، ولقارئ الكتاب متعان: الأولى في متابعة عبقرية هذا النحوي الذي ربط ظواهر اللغة التي راقبها بدقة واستخلص منها قواعدها. والثانية هي الدهشة، الدهشة من اهتمام المؤلف بأمر يراه أساسا في اللغة، التواصل. فأنت لا تجد في الكتاب قواعد الرفع والنصب والجزم كأهداف بحدّ ذاتها، بل تجد أن جل اهتمام سيبويه كان دراسة العلاقة بين المتكلم والمخاطب وسلامة المراسلة بينهما، وهذا ما يعطي اللغة حيوية وقدرة على التجدد خارج القواعد الصنمية الجامدة. رحم الله سيبويه مات سنة 180 للهجرة في مسقط رأسه البيضاء.
مات وترك لنا كتابا لا يموت.