اشتهرت حضارات وادي الرافدين بالعلوم الطبية، حيث يعتبر الصيادلة العراقيون أول من اشتغل بتحضير الأدوية والعقاقير، فضلا عن الأدوية المركبة الجديدة.
كما أنهم أول من قاموا بإعداد وتأليف دستور للأدوية، وظلوا يعتمدون عليه في البيمارستانات ودكاكين الصيدلة، وكذلك فهم أول من أنشأ حوانيت للصيدلة، ومن الشواهد على ذلك أسماء العقاقير التي أخذتها الحضارة الغربية عنهم، ولا تزال تحتفظ بأسمائها العربية والفارسية والهندية.
ولذلك فلا عجب أن يصبح الطب مدينا لصيادلة حضارة وادي الرافدين بفن الصيدلة، ومن ذلك الكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق واللزقات والمراهم والمياه المقطرة، وبعض العقاقير كالتمر الهندي والقرمز والكافور والكحول.
الحضارة السومرية
لقد توّلى طبيب سومري مجهول الاسم، نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، جمع وتدوين أغلى وصفاته الطبية في أول دستور للأدوية في العالم، ليفيد طلبته وزملائه، وهيأ لذلك لوحا من الطين نقش عليه بالخط المسماري اثنتي عشرة وصفة طبية من الأدوية المفضّلة لديه، وتعتبر هذه الوثيقة الطينية أقدم كتاب موجز في الطب معروف لدى الإنسان.
وقد بقي مطمورا في آثار نفّر طوال أكثر من أربعة آلاف سنة حتى عثرت عليه بعثة التنقيب الأميركية، وجاءت به إلى متحف الجامعة في فيلادلفيا.
واعتمدت تلك الوصفات على المصادر النباتية والحيوانية والمعدنية في تهيئة وتحضير العقاقير الطبية.
وقد بلغت طرق تركيب الأدوية ودساتيرها في العهد السومري مرحلة متقدمة من التطور، كما عبّرت عن معرفة واسعة بالطرق الكيميائية لتحضير الأدوية، حيث ذكرت في عدد منها إرشادات بلزوم تنقية المواد الغريبة الداخلة في الدواء قبل السحق.
وغفلت تلك الوصفات الطبية تعيين المقادير المراد استعمالها في تركيب العقاقير الطبية، ولربما يعود ذلك السبب إلى أنّ الطبيب السومري قد أخفى قصدا تفاصيل المقادير حفظًا لأسراره من أن يستخدمها أحد من غير أهل المهن الطبية، ولأنه من المستطاع معرفة مقاديرها أثناء التجربة عند تحضير الأدوية.
كذلك لم تنص تلك الوصفات على تسمية الأمراض التي وضعت من أجلها، ولذلك كان من الصعب الحكم على نتائجها.
الحضارة البابلية
لقد تطورت المفاهيم العلمية أثناء العصر البابلي، حيث عثر علماء الآثار على كثير من الوثائق الطبية وهي منقوشة على ألواح طينية ومكتوبة بالحروف المسمارية.
وقد اشتملت هذه الوثائق على ثلاثة أقسام من البيانات:
الأولى: قوائم من الأعشاب الطبية، وتحتوي هذه المجموعة على نصوص ذات شأن كبير في دراسة الطب البابلي، وهي مرتّبة على ثلاثة أعمدة، في الأول اسم العشب، والثاني اسم المريض الذي يعالج بهذا العشب، والثالث طريقة استعماله. والملاحظة المهمة في هذا النص هي أنّ الأمراض كانت فسيولوجية سريرية وليست ظاهرة سحرية.
الثانية: مجموعة من الوصفات العلاجية المختلفة، مرتبّة حسب الجزء المريض من الجسم، وهي أيضا مرتبة على ثلاثة أقسام أساسية:
• سرد أعراض المرض وأحيانا تشخيصه.
• الأدوية التي يجب استعمالها وطريقة تحضيرها وإعطائها للمريض.
• نتيجة العلاج.
الثالثة: مناقشة تشخيص الأمراض والتنبؤ بسيرها.
الحضارة الآشورية
تشابهت المعتقدات في حضارات وادي الرافدين، ولا سيما الحضارة الآشورية في أسباب المرض وعلاجه، وعرف الأطباء الآشوريون خصائص الأعشاب والنباتات، وكذلك المعادن.
الحضارة العباسية الإسلامية
لقد أحرز العرب في ظل الحضارة العباسية إنجازات باهرة، حيث كان التقدم العلمي في الصيدلة تابعا لتقدمهم في الكيمياء والطب، وذلك من خلال تجاربهم ومستحضراتهم.
وفي هذا العهد اشتهر العلماء جابر بن حيان والكندي وابن سينا وأبو بكر الرازي وغيرهم ممن اكتشفوا الكثير من المركبات الكيميائية التي شيّدت علم الكيمياء الحديث، فمنهم من استخدم ماء الفضة (حامض النتريك) وزيت الزاج (حامض الكبريتيك) وماء الذهب (حامض النتروهايدروكلوريك)، وغيرها كثير.
كما كان للعرب السبق في طرق التحضير، فهم أول من وصف التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتذويب.
وبرعوا في تقسيم الأدوية إلى مفردة ومركبة، ثم قسمّوا المفردة إلى أولى وثانية تبعا لتركيبها الطبيعي، من عنصر واحد أو عدة عناصر، بالإضافة إلى تقسيم الأدوية المركبة وتسميتها تبعًا لخواصها إلى حارّة وباردة ورطبة ويابسة.
كذلك أطلق العرب على الأدوية أسماء تدل على آثارها في الجسم مثل: ملطِّف، مسخِّن، هاضِم، لاذِع، قاشِر، مبرِّد، مقوٍّ، رادِع، مخدِّر، مرطِّب، مجفِّف، تِرْياق، مدرِّر، معرِّق، مرخٍّ، مخشِّن، جاذِب، عاصِر.
ومن أشهر المؤلفين في علم الأدوية في العصر العباسي، حنين بن إسحاق، وعلي بن العباس المجوسي، ومحمد بن زكريا الرازي.
ومع ازدهار صناعة الأدوية وازدياد عدد الصيادلة ظهرت عمليات الغش في العقاقير وادّعاء الانتساب إلى هذه المهنة الشريفة؛ فأصبحت هناك حاجة إلى إجراء امتحانات وإعطاء الإجازات من ولاة الأمر إلى الذين يحسنون صناعة الصيدلة دون غيرهم.
وقد ذكرت المصادر أن أول امتحان للصيادلة أُجرِي في زمن المأمون، كما أُجرِي امتحان آخر للصيادلة في زمن الخليفة المعتصم.