"المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب المثقف"، هكذا كتب المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في مذكراته "رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر" التي حكى فيها رحلته منذ أن وُلد ونشأ فى دمنهور إلى أن انتقل إلى الإسكندرية، ومنها إلى نيويورك ثم إلى القاهرة التي استقر بها حتى توفي بداية يوليو 2008.
استثنائية المسيري
اعتُبِر المسيري مفكرا عربيا استثنائيا لعدة أسباب، فهو مثقف مشتبك مع الواقع يمارس التظاهر والاحتجاج والتنظيم السياسي، وأكاديمي مثقف يعمل في حقول معرفية متعددة منها دراسات الحداثة والمادية الغربية والعلمنة واليهودية والصهيونية، والأدب الإنجليزي والنقد الأدبي، وموضوعات مرتبطة بالتاريخ والمجتمع. وقد كتب في ذلك كله بأصالة ومنهجية ذات حسّ جمالي وتحليلي وذات تجديد معرفي ومفاهيمي غير معتاد.
وكتب المسيري للخاصة والعامة إلى درجة أن مؤلفاته شملت أدب الأطفال، وأثرى المكتبة العربية بعشرات من المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، تنوعت بين الموسوعات والدراسات والمقالات، وأبرزها "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" التي تصنف ضمن أهم الموسوعات العربية في القرن العشرين.
وفي الوقت ذاته كان المسيري إصلاحيا معارضا وهو من مؤسسي حركة "كفاية" المصرية التي شملت أطيافا فكرية مختلفة وعارضت سياسات التوريث ونظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ودفع ثمن ذلك من تجاهل السلطات لمكانته الفكرية، والاعتداء عليه؛ حيث اختطفه مجهولون وألقوه في طريق مهجور.
ومن كتبه البارزة "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، و"الفردوس الأرضي"، و"الحداثة وما بعد الحداثة"، و"الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، وقد ألف عدة قصص وله ديوان شعر وتُرجِمت بعض أعماله إلى عدة لغات مثل الفرنسية والفارسية والبرتغالية والتركية.
وفي المقال الذي كتبه للجزيرة نت قبيل وفاته قال المسيري إن بعض المفكرين منذ بدايات المشروع التحديثي تنبهوا إلى الطابع التفكيكي المظلم المعادي للإنسان في هذا المشروع، مضيفًا أنه قد حوَّل الإنسان من غاية إلى وسيلة، وهناك كثير من آليات التحديث مثل الدولة المركزية أو السوق القومية أو الترشيد، تستقل عن الأهداف الإنسانية، مثل إشباع حاجات الإنسان وتحقيق الكفاية والأمن له لتصبح غايات وتهيمن على الإنسان وعليه أن يذعن لها.
وتناول المسيري مشروع تطوير "حداثة بديلة" مؤكدا ضرورة تطوير منظومة تحديث إنسانية إسلامية، منظومة هدفها ليس التقدم المستمر دون نهاية وتصاعد معدلات الاستهلاك ولا تقوم على أساس ثورة التطلعات المتزايدة، وإنما التوازن مع الذات ومع الطبيعة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وأضاف "إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط.. حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث.. حداثة تحترم التعاقد ولا تنسى التراحم".
رحلة الجذور والبذور والثمار
ولد المسيري عام 1938 في دمنهور بمحافظة البحيرة شمال الدلتا المصرية، والتحق عام 1955 بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وحصل عام 1964 على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، ثم على درجة الدكتوراه عام 1969 من جامعة رَتْجَرز.
وعمل المسيري أكاديميا في جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس، وفي عدة جامعات عربية، وفي الجامعة الإسلامية بماليزيا .
وكان المسيري مستشارا ثقافيا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ومستشارا أكاديميا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
وتناول المسيري في مشروعه الفكري ظواهر الصهيونية وعلاقتها "العضوية" بالحضارة الغربية، ورفض أفكار نظرية المؤامرة، واستخدم منظورا تحليليا جوهره البحث والإبداع.
وفي مقاله الأخير بدا المسيري متفائلا بإمكانية تحقق رؤيته لحداثة إنسانية بديلة عن "الحداثة الداروينية" التي اعتبر أنها "أدخلتنا جميعا في طريق مسدود" لافتقادها التوازن بين التعاقد والتراحم، وسعيها المحموم نحو اللذة والاستهلاك.
واعتبر المسيري أنه لا يمكن تحقيق هذه الرؤية البديلة إلا في إطار إيماني، فلا يمكن للإنسان -بحسب المسيري- أن يتجاوز الرغبة في الاستهلاك والشره والبحث الدائم والدائب إلا من خلال الإيمان بشيء أكبر منه.
وراهن المسيري على أن التطور المعرفي والسيولة الفكرية في الغرب سيؤديان لتراجع المركزية الغربية في التاريخ والثقافة.