في الشمال الشرقي للجزائر وعلى حافة الصحراء وقفت قسنطينة تختال خُيلاء غرناطة وطروادة، حيث كانت تقع على طرق القوافل التجارية والرحلات العلمية والدينية، الأمر الذي جعل منها مدينة فريدة منذ فجر التاريخ الإنساني.
يرجّح المؤرخون أن نشأتها تعود إلى عام ألف وأربعمئة وخمسين قبل الميلاد، غير أن أول تاريخ معروف للمدينة بالاسم الأمازيغي "سيرتا" عاصمة المملكة النوميدية.
قسنطينة الحضارة، يحمل العالم إليها على ظهر قوافل تقطع الأرض لتحل في أرضها، وتحمل هي العالم إلى زائريها بغرس الحضارات التي توالت عليها. فكثيرة هي الآثار التي ما زالت باقية في المدينة، شاهدة على تعاقب الحضارات هنا، النوميديون، والرومان والمسلمون والفرنسيون.. هي نسيج من الحضارات المتعاقبة، إلا أن للحقبة الرومانية عظيم الأثر، حيث استمرت حوالي خمسة عشر قرنا، غير أنها دخلت في بعض الحروب الطاحنة التي دمرتها قبل أن يعيد بناءها الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي سميت المدينة باسمه. واليوم ها هو قسطنطين علم من أعلام قسنطينة لا يغادرها.
ثم ما لبثت قسنطينة أن دخلت في العهد الإسلامي، فعلى رأس جيش الإسلام حل عقبة بن نافع فاتحا المغرب العربي لتدخل المدينة في عهد جديد. وسرعان ما ارتقت سلم الحضارة، فعن تلك الفترة يتناول المؤرخون والرحالة المسلمون قسنطينة باعتبارها مركزا حضاريا مهمّا، حيث غدت بجدارة مدينة العلم والعلماء.
خلال الحقبة الإسلامية كانت المدينة ملازمة للعلم والعلماء، فغدت مشكاة يطلبها الباحثون من كل حدب وصوب، وهذا ما يفسر أنها عجّت طويلا بالمدارس الشرعية، كما أن المدينة تميزت بوجود عائلات قسنطينة بأكملها عُرفت بالعلم وتوارثه جيلا بعد جيل.
على مقربة من قسنطينة كان الأندلسيون على الأبواب. حلّت سحب الأندلس بكامل ألقها في قسنطينة لتزيدها ألقا ونورا إلى ألقها، وكأن الأندلس أعيدت في أرض قسنطينة ببيوتها وفن عمارتها بحضارتها وحلقات علمها لتصبح قسنطينة وريثة الأندلس إلى يومنا هذا.
مع بدايات القرن الخامس عشر، دخلت قسنطينة في العهد العثماني طواعية، وإذ ذاك أيضا أضحى لها شأنها، إذ غدت عاصمة لما كان يسمى ببيلك الشرق، أي عاصمة المقاطعة الشرقية، في أول تقسيم إداري عرفته الجزائر. عندها لبست قسنطينة ثوبا عثمانيا لا يزال أثره ماثلا إلى يومنا هذا، حيث تحولت إلى واحدة من أهم المدن التجارية والصناعية في المغرب العربي.
بالطبع كانت قسنطينة مطمعا للغزاة على مر الزمن، حالها حال الجزائر التي كانت فرنسا ترصدها تريدها بأيّ ثمن. فعلًا زحفت فرنسا نحو الجزائر عام ألف وثمانمئة وثلاثين، وسرعان ما سقطت العاصمة الجزائر تحت براثن فرنسا، ثم زحفت نحو بيلك الشرق قسنطينة التي كانت لفرنسا بالمرصاد. تهاوى الاستعمار الفرنسي على أعتاب بها، وتمكن أهل المدينة من الذود عنها.
كان يحكم قسنطينة أحمد باي آخر البايات العثمانيين الذي قاد المقاومة حتى الرمق الأخير. يعلم القسنطينيون تماما من هو أحمد باي، فقصره لا يزال في قسنطينة علما من أعلامها ورمزا للهيبة التي حمتها.
استمرت فرنسا تحاول اقتحام قسنطينة سبع سنوات متتالية إلى أن جاءت المعركة الحاسمة عام ألف وثمانمئة وسبعة وثلاثين، تمكنت فرنسا من المدينة. عندها فقط هوت قسنطينة وانزوَى حرزُ المدينة الذي يحميها. حينها فقط دُنّست أرض قسنطينة بالغزاة وعمّها موت كثير.
كان للتصدي للاستعمار الثقافي يد طولى في انتشال الجزائر من هول الاستعمار الفرنسي بإيجاد جيل قادر على مقاومة فرنسا ودحرها عن أرضهم، جيل مؤمن بتاريخه وعروبته ودينه، الجيل الذي سيشعل ثورة تعمّ الجزائر، كانت نواته في المدارس التي اجتاحت قسنطينة على يد الشيخ ابن باديس.
الأول من نوفمبر تشرين الثاني أربعة وخمسين، اندلعت الثورة الجزائرية ثورة نوفمبر المجيدة، وكانت قسنطينة في ركب الثورة. اجتاحت الثورة أرجاء الجزائر وانطلقت المقاومة، وكانت قسنطينة بؤرة للمقاومة في وجه الاستعمار، لكن فرنسا كانت قاسية بحق الجزائريين. قتلت الآلاف. زجت بالمئات منهم في السجون. اكتوت قسنطينة بلهيب الاستعمار حالها حال مدن الجزائر.
عندها ظهر حرز قسنطينة الحقيقي يذود عن المدينة، فللمدينة حماة يدرؤون عنها شديد الموت، يلتحم فيها الرصاص بالحلم والحروف بالنار، فقد ظهر ركب من المثقفين والأدباء والعلماء إبان فترة الاستعمار كانوا بحق أبناء قسنطينة البارّين والأديب الجزائري العالمي كاتب ياسين الذي حارب الاستعمار بطريقته، فهو ثوري متمرد متعدد المواهب، أديب وشاعر ومسرحي في آن، كان ملهما للثوار مؤمنا بهم وبثورتهم.
وفي عام واحد وستين انجلى الاستعمار عن وجه الجزائر، مليون شهيد أو يزيدون.. قدمت الجزائر فلذات أكبادها في سبيل الحرية فاستحقت ثقتها، وأعادت قسنطينة حراكا حضاريا ما لبث أن دخلها مجددا.
وما إن تسير في قسنطينة القديمة حتى تتلقفك أزقتها بتاريخها بعبقها.. مدينة العلم والعلماء مُلهمِة وولّادة.