ذرائع ترمب
ساقت الإدارة الأميركية أسبابًا أربعة لهذا الإعلان، وهي:
أولا: عدوان الصين على حقوق الملكية الفكرية، حيث تدّعي الولايات المتحدة أنّها تتعرض لخسارة تبلغ مئات الملايين من الدولارات سنويا، نتيجة لتغاضي الصين عن العدوان على الحقوق الفكرية للمنتجات الأميركية.
ثانيا: معاملة الصين بالمثل، إذ تفرض الصين جمارك بنسبة 25% -حسب قول الرئيس الأميركي- على السيارات الأميركية.
ثالثا: التلاعب الصيني بأسعار العملة المحلية (اليوان) كي تبقيها متدنيّة أمام الدولار الأميركي، وهو ما يجعل قدرة الصين التنافسية على التصدير أكبر، نتيجة رخص بضائعها وصعوبة استيراد البضائع الأميركية بسبب ارتفاع سعر الدولار مقابل اليوان.
رابعا: تعديل الميزان التجاري بين البلدين الذي يميل بشدة نحو الصين، إذ يبلغ حجم التبادل التجاري السنوي بينهما قرابة 800 مليار دولار، ويبلغ مقدار العجز التجاري لصالح الصين حوالي 375 مليار دولار. ويرد الصينيون قائلين إنهم لا ذنب لهم في عجز البضائع الأميركية عن المنافسة بالقدر المطلوب.
من جانبها أعلنت بكين أنّها سترد على الخطوة الأميركية التي وصفتها بأنها غير مبرّرة، وطالبت واشنطن بالتفاوض لإيجاد حلول للأزمة. ووسط تجاهل أميركي للعرض الصيني، أعلنت بكين إجراءات مضادة بفرضها رسوما جمركية على منتجات زراعية أميركيّة بقيمة ثلاثة مليارات دولار أميركي.
وبدورها أعلنت منظمة التجارة العالمية -التي طالما سعت أميركا لإقناع دول العالم بالانضمام إليها وإزالة الحواجز أمام توسعها- أنّ الإجراءات الأميركية غير قانونية، مما أغضب واشنطن عليها فأعلنت أنّها ستعاقب المنظمة واتهمتها بعدم الفاعليّة.
وفي عملية فتح للنار على الجميع، كانت رسوم ترمب الجمركية ستشمل الحلفاء الأوروبيين، ولكنّه سرعان ما تراجع عن ذلك. وشمل هذا التراجع أيضا كلًّا من كندا والمكسيك، شريطة أن تقوم هذه الدول بتقديم تنازلات للولايات المتحدة في مجالات أخرى.
يبدو أنّ ترمب يعتقد أنّ الحروب الاقتصادية سهلة وغير مكلفة، كما صرح بذلك في إحدى تغريداته؛ ولذا فإنّه -على ما يبدو- يريد جني مكاسب ماليّة كبيرة بالضغط على الآخرين، لكي يقدّم لناخبيه الأموال والوظائف التي طالما وعدهم بها. وهو يريد جنيها ليس من الصين فحسب، بل من كل الأطراف وبينهم حلفاؤه كالسعودية واليابان والأوروبيين.
غير أن كثيرًا من الاقتصاديين يؤكدون أنه لا أحد يخرج رابحًا من الحروب التجارية، وخير مثال على ذلك أنّ هذا النوع من الحروب أسهم -إلى حد كبير- في تعميق أزمة الكساد العظيم التي طالت أميركا أواسط ثلاثينيات القرن الماضي.
إذ سيؤدي رفع الجمارك إلى ارتفاع كلفة السلع، مما يعني لجوء المستهلك إلى الإحجام عن الإنفاق، أو التوجه نحو شراء المنتج المستورد الرخيص الثمن، وتجنب شراء المنتج المحلي الغالي الثمن، وهو ما سيؤدي إلى تباطؤ السوق وخسارته للأرباح والوظائف معًا.
الرد الصيني
وفي المقابل فإنّ ارتباط الاقتصاد الصيني بنظيره الأميركي أصبح ارتباطًا عضويًّا، إلى درجة أنّ أي إضرار بالاقتصاد الأميركي سيقود إلى خسارة كبيرة للاقتصاد الصيني، وذلك لكون الصين هي أكبر دائن خارجي لأميركا.
إذ يبلغ ما استثمرته الصين مباشرة في سندات الخزانة الأميركية 1.17 تريليون دولار، وهي تستثمر -بشكل مكثف- في الشركات الأميركية الكبرى؛ ولذا فإنّ خطوة كهذه يترتب عليها توجيه ضربة لأسواق الأوراق المالية الأميركية أو لسعر الدولار، لا يمكن أن تقدم عليها الصين حاليا.
إنّ ما أعلنته الصين من إجراءات مضادة ليس إلّا ردًّا أوليًّا، وأغلب الظنّ أنّها ستلجأ إلى عقوبات ذكيّة لا تسبّب ضررًا كبيرًا للاقتصاد الأميركي، ولكنّها ستؤثر مباشرة على تلك الفئة من الناخبين التي تساند ترمب، وستضر بصورته أمامهم، فهي إذن عقوبات سياسية مغلفة بغطاء تجاري، كأن تلجأ إلى التقليل من شراء سندات الخزانة الأميركية، بحيث تجعل قدرة الولايات المتحدة -وهي المدين الأكبر في العالم- على الإيفاء ببعض التزاماتها الداخلية والخارجية، أكثرَ صعوبة.
كما أنّ الردود الصينية على القرار الأميركي قد لا تتوقف عند الرد الاقتصادي، فمصالح الولايات المتحدة منتشرة في كل مكان من العالم، وخاصة في قارّة آسيا التي تعدّ الفناء الخلفي للصين.
لا شك في أنّ الحرب التجارية -التي بدأ ترمب إشعالها- لن تتوقف نيرانها عند حدود البلدين، بل ستمسّ الاقتصاد العالمي برمّته وخصوصًا الاقتصادات العربيّة، إذ إنّ أكبر الاقتصادات العربية هي اقتصادات ريعيّة تعتمد على تصدير النفط والغاز المقوَّمة عقودهما بالدولار الأميركي، فإذا انهار الدولار الأميركي فإنّها ستتلقى ضربة قاصمة.
وذلك لصالح أنواع أخرى من الطاقة البديلة، أو حدوث انخفاض حادّ في الطلب نتيجة لزيادة الإنتاج الأميركي وتراجع اعتماده على الخارج، وزيادة الإنتاج الروسي الذي سيؤدي إلى تراجع كبير في الأسعار بسبب زيادة المعروض النفطي في الأسواق.
إذن، هل سيكون ترمب قد أسقط أول قطعة من أحجار الدومينو في حرب تجارية عالمية، وما هي إلاّ مسألة وقت حتى تنهار بقية الأحجار؟ أم أنها ستكون هزة عابرة تتجاوزها الصين ولن تؤثر كثيرًا على علاقاتها مع أميركا؟ ويبدو أن الوقت لن يطول حتى نحصل على إجابة سؤالنا هذا.