يعتقد كثير من الناس أن الأطفال يتعلمون اللغة عبر تقليد من يحيطون بهم، ويبقى السؤال كيف يُعقل للأطفال الذين لم تتشكل مقدراتهم المعرفية بَعْدُ اكتساب اللغة الأولى وتعلّم الأنظمة اللغوية المعقدة للغة بتلك السهولة؟ وما هي الأسباب التي تمكّن الأطفال من اكتساب اللغة الأولى في ضوء عدم نضج المعارف العقلية لديهم؟
يميل اللغويون وعلماء النفس اللغوي إلى أن الأطفال يكتسبون اللغة بشكل يفوق الدخل اللغوي الذي يتعرضون إليه، حيث يستطيعون إنتاج جمل وتراكيب لم يسمعوا بها من قبل. وهذا هو ما يُطلق عليه المشكلة المنطقية التي لا تزال تحير العلماء في كيفية اكتساب الأطفال للغة دون امتلاك قدرات عقلية ومعرفية تؤهلهم إلى ذلك.
وتُعْرَفُ المشكلة المنطقية في اكتساب اللغات الأولى والأجنبية على حدٍّ سواء في مقدرة الطفل أو المتعلم على معرفتهم تراكيب لغوية أكثر مما يتوقع منهم، وإنتاج جمل على منوالها دون أن يكُونوا قد تعرضوا إلى هذه الخبرات من قبل، فالدخل اللغوي الذي يتعرض إليه الطفل أو المتعلم الأجنبي يزخر بالمعلومات الخاطئة والناقصة والملبسة والمشوشة وهي لا توفر الصورة المثالية لما يحتاج إليه الطفل أو المتعلم، وعلى الرغم من كل ذلك يستطيع أن يكتسب اللغة ويحكم عليها ويأتي بتراكيب وجمل لم يسمع بها من قبل.
وعليه يعتقد تشومكسي أن عقول الأطفال والمتعلمين ليست خاوية لنملأها بالمحاكاة والتقليد كما يعتقد السلوكيون بل إنهم يولدون وهم مزودون بقدرة خاصة تجعلهم يكتشفون القواعد التحتية للنظام اللغوي المتعلَّم، وهذه هي التي أطلق عليها تشومكسي القواعد العالمية أو النحو الكلي وهي قوالب تضم الأسس المشتركة في كل اللغات. ويدلل اللغويون على ذلك بأن جل أطفال العالم يكون أول إنتاجهم للغة كلمة ماما باختلاف طرائق لفظها.
يقول تشومسكي في كتابه Aspects of the theory of syntax من الواضح أن الطفل الذي اكتسب لغة ما قد طور في ذاته تصوراً داخليّاً لكيفية تنظيم القواعد وتركيب الجمل فهماً واستعمالاً، ويمكن القول إن الطفل قد طوّر في ذاته قواعد توليدية، من خلال ملاحظة الدخل اللغوي الأولي الذي تعرض له. فالفطرة المتوافرة فيه تساعده على إيداع غير محدود للتراكيب والقواعد اللغوية، وعليه فمسألة الفطرية اللغوية لدى تشومسكي تمثل حجر الزاوية في تفسير عملية اكتساب اللغة الأولى والثانية.
وجعل تشومسكي القواعد الكلية أو الكونية أو العالمية مناط تفسير هذه المقدرة الفطرية اللغوية التي تقوم بمراقبة الجمل المنتجة وتنظيمها ضمن قواعد كلية، وقوانين لغوية عامة، تخضع لها الجمل التي ينتجها المتكلم ويختار ما يتصل بلغته من قوالب وقواعد من بين الأُطر الكلية الشمولية العالمية العامة المتوافرة في ذهنه وتكون متساوية بين جميع الناس لأنها تفعّل بولادة الإنسان، وأطلق عليها (جهاز اكتساب اللغة).
والقواعد الكلية تحتوي على المبادئ العامة الثابتة المتوافرة ضمن الفكر الإنساني التـي لا تتغـير باختلاف البشر.