كان أحمد عبقريا غريب الأطوار؛ فكنت تجده نجارا وكنت تجده حلاقا، وقد تلقاه تاجرا، أو سباكا، أو بناء، أو طبيبا يعالج المرضى، ويداوي الحيوانات.
ثم إنك تجده أينما ذهبت، فهو في المقاهي والأسواق، وهو في الحدائق والشوارع، وهو في ولائم الأفراح، وفي مجالس العزاء!
وكان كثير المشاريع؛ يبدأ عملا من الأعمال أو حرفة من الحرف وينجح فيها غاية النجاح، ثم يتركها وينصرف إلى غيرها.
ومع هذا كله فقد كان يمشي على ساق واحدة، أو كان يمشي على ساقين؛ إحداهما طبيعية، والأخرى عكاز صنعه هو بنفسه.
وفي يوم من الأيام سمع أن هناك مستشفى يتبرع للمحتاجين بالأرجل الصناعية، فطار إليه وظل يقوم ويقعد حتى حصل على ساق صناعية، وعاد إلى القرية يمشي على ساقين!
ولكنه أصبح يمشي بوقار وهدوء، وتخلى عن كثير من أعمال الفرح والمرح التي كان يملأ بها شوارع القرية!
وفي مرة من المرات تفاجأ أهل القرية بأحمد يقفز من القطار، ويجري في الشارع؛ يمزح مع هذا ويضحك من هذا في خفة ومرح، وهو يمشي على ساق واحدة وبيده عكاز!
وهنا سأله أهل القرية: أين ساقك؟
فأجاب: كان لي صديق مبتور الساق وأراد أن يتزوج، فاستعار ساقي الصناعية فأعرتها له، ولكنه لم يعدها إلي!
وكأني والله كنت في سجن، أو كان في قدمي قيد، فأبعد الله تلك الساق ولا ردها!
المصدر:
"آخر الدنيا" ليوسف إدريس، مطبعة مصر.
ص 55-65 (بتصرف).
كَانَ أَحْمَدُ عَبْقَرِيًّا غَرِيبَ الأَطْوَارِ؛ فَكُنْتَ تَجِدُهُ نَجَّارًا وَكُنْتَ تَجِدُهُ حَلَّاقًا، وَقَدْ تَلْقَاهُ تَاجِرًا، أَوْ سَبَّاكًا، أَوْ بَنَّاءً، أَوْ طَبِيبًا يُعَالِجُ الـمَرْضَى، وَيُدَاوِي الحَيَوَانَاتِ.
ثُمَّ إِنَّكِ تَجِدُهُ أَيْنَمَا ذَهَبَتَ، فَهُوَ فِي الـمَقَاهِي وَالأَسْوَاقِ، وَهُوَ فِي الحَدَائِقِ وَالشَّوَارِعِ، وَهُوَ فِي وَلَائِمِ الأَفْرَاحِ، وَفِي مَجَالِسِ العَزَاءِ!
وَكَانَ كَثِيرَ المَشَارِيعِ؛ يَبْدَأُ عَمَلًا مِنَ الأَعْمَالِ أَوْ حِرْفَةً مِنَ الحِرَفِ وَيَنْجَحُ فِيهَا غَايَةَ النَّجَاحِ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا وَيَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهَا.
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَقَدْ كَانَ يَمْشِي عَلَى سَاقٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَانَ يَمْشِي عَلَى سَاقَيْنَ؛ إِحْدَاهُمَا طَبِيعِيَّةٌ، وَالْأُخْرَى عُكَّازٌ صَنَعَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ.
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ سَمِعَ أَنَّ هُنَاكَ مُسْتَشْفًى يَتَبَرَّعُ لِلْـمُحْتَاجِينَ بِالأَرْجُلِ الصِّنَاعِيَّةِ، فَطَارَ إِلَيْهِ وَظَلَّ يَقُومُ وَيَقْعُدُ حَتَّى حَصَلَ عَلَى سَاقٍ صِنَاعِيَّةٍ، وَعَادَ إِلَى القَرْيَةِ يَمْشِي عَلَى سَاقَيْنَ!
وَلَكِنَّهُ أَصْبَحَ يَمْشِي بوَقَارٍ وَهُدُوءٍ، وَتَخَلَّى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِ الفَرَحِ وَالـمَرَحِ الَّتِي كَانَ يَمْلَأُ بِهَا شَوَارِعَ القَرْيَةِ!
وَفِي مَرَّةٍ مِنَ المَرَّاتِ تَفَاجَأَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِأَحْمَدَ يَقْفِزُ مِنَ القِطَارِ، وَيَجْرِي فِي الشَّارِعِ؛ يَمْزَحُ مَعَ هَذَا وَيَضْحَكُ مِنْ هَذَا فِي خِفَّةٍ وَمَرَحٍ، وَهُوَ يَمْشِي عَلَى سَاقٍ وَاحِدَةٍ وَبِيَدِهِ عُكَّازٌ!
وَهُنَا سَأَلَهُ أَهْلُ القَرْيَةِ: أَيْنَ سَاقُكَ؟
فَأَجَابَ: كَانَ لِي صَدِيقٌ مَبْتُورُ السَّاقِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَاسْتَعَارَ سَاقِيَ الصِّنَاعِيَّةَ فَأَعَرْتُهَا لَهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيّ!
وَكَأَنَّي وَاللهِ كُنْتُ فِي سِجْنٍ، أَوْ كَانَ فِي قَدَمَيَّ قَيْدٌ، فَأَبْعَدَ اللهُ تِلْكَ السَّاقَ وَلَا رَدّهَا!
المصدر:
"آخر الدنيا" ليوسف إدريس، مطبعة مصر.
ص 55-65 (بتصرف).